اتكأت على أُغنية "موطني" بتوزيعها الجديد لأفترشها خلفية لحديث نثرتُهُ لجمهور ما انقطعت شكواه من الحكومة وتقاعسها وقراراتها المتفردة نحوه، والمؤججة لتعبه ومعاناته اليومية، كنت أُحاول على مدى الساعات التي سبقت الانتخابات البلدية التوجه للناس في أحاديث حول دور المواطن في إنتاج المسؤولين وقراراتهم التي لا معنيّ بها أو متأثر إلا هو.
التاريخ يعيد نفسه كل يوم، لكنه يتخذ كل مرة طلة جديدة، فقد حدث هذا أثناء انعقاد البرلمان السابق وخلال الانتخابات البرلمانية الأخيرة قبل أشهر، حين واصل مواطنون من كل الألوان والأحجام والفئات إطلاق الشكاوى من القرارات الحكومية والتقاعس النيابي تجاه المواطن، والإشارة لوجوب تلبية نداء الوطن بانتخاب الأفضل والأكفأ والأقدر على خدمة الناس والتخفيف من معاناتهم جراء التفرد الحكومي بقرارات تمس حياتهم كل يوم.حذر المواطنون أنفسهم من ظاهرة ما أسميناه مجاملةً وتلطفاً (المال السياسي) وأطلقنا لَعناتنا على كل من يسقط عنوةً أو طوعاً في بئر البيع والشراء، مُحذرين من شر أعمالنا ومُنذرين بمجالس نيابية باهتة و(باردة) الأداء، إذا ما واصلنا غيّنا مصرين على أن "اللي منو أحسن منو".في الانتخابات النيابية قصرنا بحق أنفسنا حين غضضنا أبصارنا، بسبق إصرار عن مال سياسي في كل الاتجاهات حَمَلَنا ثم رمانا في براثن "اللي بدفع أكثر" فأطلقنا منتجَنا الأخير ثم عُدنا لإطلاق الشكوى من قلة الخبرة وسوء الأداء وضحالة الممارسة وضيق الأُفق ومحدودية النظر وانعدام التجانس.وفي الانتخابات البلدية تكرر المشهد بكثافة أكبر، فشهدت الأصوات تراجعاً حاداً في الأسعار، بالنظر إلى قلة أهمية الانتخابات البلدية مقارنة بشقيقتها النيابية، والفروق الكبيرة التي تتيحها كل واحدة منهما في دنيا المصالح والمنافع والجوازات والألقاب واللوحات الحمراء، بل زاد الإحجام عن الانتخاب، وغابت النسب التي تتبارى بإعلانها الحكومات للتدليل على نجاح انتخاباتها.من يقول إن مدناً رئيسية بمئات آلافها لم تتجاوز العشرة بالمائة كنسبة للتصويت وفي مقدمتها عمان، إلا إذا كان أبناء المدن قد اعتادوا النوم وكسل العطلات فانتزعوا على ظهر الحكومة وانتخاباتها يوم عطلة إضافيا، وذلك أقل الفوائد المترجاة من حكومات لا تعرف إلا رفع الأسعار كنهج لتوجهاتها الاقتصادية.الأسعار كلها بارتفاع دائم، إلا سعر صوت المواطن فهو بانحدار متواصل تبعاً لنظرية العرض والطلب، وكأن المواطن قد أسهم بيده في التبخيس بقيمته حين انغمس بلعبة الذمم المعروضة للبيع، للجاهز المتحفز العارف دوماً كيف السبيل الى المجلس، أي مجلس.في المشهد الانتخابي الأخير ما يشي بأننا حكومة وشعب لم نتعلم الدرس من أخطائنا، لا بالتجهيز والتحضير وحُسن الإدارة بالنسبة للحكومة، ولا بالحضور أصلاً للإدلاء بقرار كان يمكن أن يغير الواقع الذي نشكو منه ليل نهار بالنسبة للمواطن.بل لعلنا لم نتعلم أن الأغاني الوطنية التي تثير فينا نشوة صباحية يومية على برامج الصباح الإذاعية نتفاعل بها ونطرب لها، لا تكفي لأن نترجم مواطنة حريٌّ بها أن تبقى بمنأى عن البيع والشراء والاستسهال والمزايدة.أُحس أنني ما زلت أتكئ على أُغنية موطني وإيقاعها الرخيم لتخيل أي ثيرموميتر يمكنه احتساب كمية المواطنة أو قياس منسوب الانتماء في النفس سوى المواطن نفسه، وعن أي جهاز كشف للكذب يمكنه اكتشاف ادعاءات المُدّعين سوى المواطن نفسه.بعد نتائج الانتخابات الأخيرة، من سيجرؤ منا أن يعود إلى شكواه الدائمة من الحكومة وقراراتها ومن البرلمان ولجانه وتشريعاته ومن المجالس البلدية وضيق حالها وقلة حيلتها.
hani.albadri@alghad.jo
الغد