قضية وتحليل
بانتظار اللحظات الحاسمة من عمر الثورة السورية يبدو المشهد ضبابيا ومربكا على حد بعيد، فالغرب يلوح بتوجيه ضربات لنظام الأسد ودول الجوار تتأهب والكيان الإسرائيلي يعلن حالة الاستنفار، وطوفان النازحين السوريين يداهم لبنان والأردن وتركيا، وسط أنباء عن مغادرة عائلات كبار ضباط نظام الأسد إلى لبنان ومنها إلى دول أخرى، فالكل بانتظار ساعة الصفر لبدء الهجوم الغربي على المرافق الحيوية لنظام الأسد وقواته وثكناته ومطاراته وبنك من الأهداف الحيوية في جهات سوريا الأربعة.
هناك العديد من العوامل التي تشير إلى تعقيد التعامل مع الحالة السورية، فالعالم لم يعد قادرا على منح بشار الأسد ونظامه الإرهابي بعد مجزرة غوطة دمشق باستخدام الأسلحة الكيماوية التي أدت إلى قتل 1500 إنسان وإصابة ما يقرب من 5000 آخرين، وهي إحصائية مرشحة للتصاعد، فهذه المجزرة الهمجية الوحشية التي أذهلت العالم كسرت قواعد اللعبة الغربية والعربية التي كانت تقوم على إستراتيجية "المهل" ومنح نظام الأسد الإرهابي المزيد من الوقت لإتمام المهمة والانتصار في حربه على الشعب السوري، وأصبح لزاما على العالم أن يتدخل لوضع حد لعمليات الإبادة الجماعية المستمرة منذ عامين ونصف العام في سوريا، إلا أن المشكلة الجوهرية تكمن في نوايا الغرب وأهدافه ورغباته، فالولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا أعلنتا أنهما لا تهدفان إلى إسقاط الأسد ونظامه، وإنما معاقبته فقط، كما جاء على لسان أكثر من مسؤول أمريكي وبريطاني، وهذا يعني أن الضربات لن تكون أكثر من "شد أذن" كما نقول في اللهجة العامية، لإقناع موسكو وطهران أن الوقت انتهى بالنسبة لبشار الأسد وانه لا بد من تغييره، وان عليها إدراك أن المعادلة الآن هي "التضحية بالأسد" للمحافظة على نظامه، وغير ذلك فان الأسد والنظام سيسقطان وستسقط سوريا بالتالي بأيدي الجماعات الإسلامية والألوية الجهادية، مما يفقد الجميع القدرة على التحكم الساحة السورية أو يجعل منها ساحة "خارجة عن السيطرة" وهو ما لا يريده احد في الشرق أو الغرب، لان عدم التخلي عن الأسد يعني خسارة سوريا بأكملها، وفقدان السيطرة بشكل كامل على مجريات الأمور، وهنا تكمن أهمية "العملية الجراحية" التي تهدف إلى "نتف ريش" الأسد، لإجباره وحلفائه على التنازل.
هذه الإستراتيجية الغربية تضع سوريا والعرب في مواجهة مأزق خطير جدا، فالغرب يلعب في سوريا على قاعدة "نظام لا يهزم وثورة لا تنتصر"، وان تكون النتيجة النهائية سوريا ضعيفة غير قادرة على تشكيل أي تهديد للكيان الإسرائيلي، إضافة إلى أن أطرافا عربية فاعلة لا ترغب بانتصار الثورة السورية لخشيتها من تنامي قوة العناصر الجهادية الأكثر فاعلية وانتشارا وقوة على الأرض والذين يشكلون العمود الفقري للجيش الحر، وهنا تبرز جماعة الإخوان المسلمين بوصفها الجماعة الأكثر تنظيما وهذا ما لا تريده أطرافا عربية تحارب الإخوان المسلمين في مصر بضراوة بالغة وتخوض معهم "حربا تاريخية"، فمن غير المعقول ان تحارب هذه الدول الإخوان المسلمين في مصر وتدعمهم او تتركهم ينتصرون في سوريا، والمنطقي أن هذه الدول التي تشن حربا لا هوادة فيها على الإسلاميين في مصر لابد من تحاربهم في سوريا كما في أماكن أخرى في العالم العربي.
الغرب ومعه حلفاؤه العرب لن يخوض "حربا نظيفة" أو أخلاقية ضد نظام الأسد، لان التدخل الغربي" محدد الأهداف دون التورط في حرب أو إسقاط الأسد"، وهذا يفرض طرح السؤال التالي: إذا كان الغرب لا يريد إسقاط الأسد فما هو هدف هذه الضربات إذن؟
هذا ما أجاب عليه المتحدث باسم البيت الأبيض بقوله: "مستقبل سوريا يكمن في الحل السياسي عبر مفاوضات من دون الأسد"، مما يكشف بعض بنود الصفقة "الأمريكية الروسية" التي دفعت وزير الخارجية الروسي إلى الإعلان أن "موسكو لن تقاتل دفاعا عن الأسد"، ولا بد أن روسيا تخلت عن الأسد مقابل إغراءات مهمة من قبيل ضمان المصالح الروسية في سوريا، وضمان بقاء نظام الأسد ومشاركته في السلطة في مرحلة ما بعد رحيل الأسد، وهي صفقة ترضي طهران وان على مضض أيضا، فإيران لا تريد أن تخسر سوريا،"المحافظة الخامسة والثلاثين" كما وصفها احد المسؤولين الإيرانيين، أما الأطراف العربية الأخرى التي لا ترى في المشهد السوري غير الإخوان المسلمين وضرورة إخراجهم من المشهد فهم يعملون على تأسيس "دكاكين ثورية" والتحكم بالجيش السوري الحر من اجل التحكم بالأرض، وتوجيه الدعم المالي الكبير لهذه "الدكاكين" على أن تكون مهمتها هي محاربة الجماعات الإسلامية المسلحة التي تقاتل نظام الأسد، وهي تريد منع هذه الجماعات الإسلامية من المساهمة بإسقاط الأسد لو استطاعت إلى ذلك سبيلا لكي لا تشارك في ترتيبات في سوريا المستقبل، وحتى لا تضطر إلى محاربتها وجها لوجه في مرحلة لاحقة.
الثابت الوحيد في هذا المشهد المعقد أن "بشار الأسد" قد انتهى، مع رفع الغطاء الروسي عنه علنا، وان عليه مغادرة السلطة وسوريا، لكن الاحتمالات بعد ذلك تبقى مفتوحة على كل الاتجاهات ومرهونة بقوة الضربات الغربية والمدى الذي ستذهب إليه وقدرة نظام الأسد على الصمود، وموقف إيران من التدخل العسكري الغربي وهل هي مستعدة لخوض الحرب دفاعا عنه؟ وهل هي مستعدة لفتح جبهات أخرى للتخفيف عن نظام الأسد، وهل سيكون هناك مواجهة مفتوحة بين الاخوان المسلمين والجماعات الإسلامية مع دول عربية تريد إخراجهم من المشهد نهائيا؟
كثيرة هي الأسئلة التي تحتاج إلى إجابات،إلا أن الثابت الوحيد في المشهد هو أن المعركة المقبلة في سوريا ستكون اعنف وأكثر شراسة وأنها قد تتحول إلى حرب إقليمية بامتياز، إذا أفلتت الأمور عن السيطرة، فالغرب يلاعب الأسد ولا يريد إسقاطه،وهذا ما ستكشف عنه الأيام المقبلة.
hijjawis@yahoo.com