تتدحرج الحالة المصرية إلى وضع غير مسبوق من الانقسام والصدام بين مكونات المجتمع المختلفة في ظل تفاقم الحالة التي خلقها الانقلاب العسكري المتصاعد والمتفاقم، ويمكن اعتبار انقلاب عبد الفتاح السيسي اخطر انقلاب في التاريخ العربي الحديث لانه لا يعني الاطاحة برئيس شرعي ونظام حكم والاستيلاء على السلطة فقط، بل يتعدى خطره ذلك إلى قلب المنظومة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والاخلاقية والمفاهيمية للشعب المصري، ويؤدي إلى تكريس الانقسام الحاد غير المسبوق في مجتمع عرف بانتمائه الوطني الذي يفوق انتمائه الاسلامي والعربي، ويقسم الشعب بين مؤيد للانقلاب ورافض له، ويرسم الانقلاب خطوط الدم بين في المجتمع بين القاتل والمقتول.
ففي اول يومين من عمر الانقلاب قتل الانقلابيون ومؤيدوهم وجنودهم 5000 مصري وحرقوا 237 جثة وجرفوا الجثث بالجرافات والقوها في اماكن مجهولة، وهي عمليات قتل دموية حفرت خندقا واسعا في المجتمع وتركت جروحا عميقة في الشخصية المصرية وتحول المجتمع إلى قاتل ومؤيد للقاتل وإلى مقتول او اهل للمقتول يسكنهم الغضب والرغبة بالانتقام والثار، مما حول مصر حاليا إلى مصرين، وعمقت الهوة بين المسلمين والاقباط الذين ايدوا الانقلاب والاطاحة باول رئيس اسلامي في تاريخ مصر، وزاد من الطين بلة تبجح وزير مالية الاقباط نجيب ساويرس انه انزل إلى الشوارع مليون ونصف مليون متظاهر، معظمهم من الاقباط طبعا، مما يضع الاسلاميين، وهو القوة الاكبر في المجتمع المصري، والاقباط، وهم الاقلية الاكبر في مصر، وجها لوجه، في حالة من التناقض الكامل
والجذري، مع امكانية ان تتحول المعركة في المستقبل إلى صراع وجودي بين الطرفين، وهي مواجهة سيخسر فيها الاقباط حتما لانهم الاقلية، تماما كما تخسر كل الاقليات بعد نهاية اي حرب، وتعيش خائفة مرعوبة مسكونة بالقلق والتوجس، واعتقد ان الاقباط في مصر سيعيشون مثل هذه الحالة، على الرغم من وجود اصوات قبطية فردية وقفت ضد الانقلاب، فبعد 100 عام سينسى المصريون الانقلاب لكنهم لن ينسوا ان الاقباط والكنيسة دعموا الانقلاب وحرضوا عليه وشاركوا فيه عمليا.
هذه المشهد الذي رسمه الانقلابيون بالرصاص والنار والباورد عمد بالدم خطوط الكراهية الفاصلة بين الطرفين، وحول المجتمع العربي الوحيد الذي كان لا يحتاج إلى تعريف لهويته إلى مجتمع مسكون بصراع عميق يمهد الطريق امام المزيد من الشرور في المستقبل، فما يقوم به الانقلابيون من اقصاء لمكونات اجتماعية وسياسية واقتصادية في المجتمع يعني زرع بذور الرد المستقبلي من قبل الطرف الذي يتم اقصاؤه بنفس الطريقة ان لم يكن باسلوب اشد واكثر عنفا، فمن المعروف ان الجماعات التي يتم اقصاؤها اما ان تهزم وتختفي بالكامل او انها تقاوم وتحارب ضد الاقصاء في المرحلة الاولى ثم اجتثاث الخصم في مرحلة لاحقة، مما يطور حالة الصراع من الكراهية إلى العنف المسلح في المرحلة الاخيرة، والدخول في حالة من الاحتراب الشديد الذي يمكن ان يستمر عقودا.
في مصر اليوم يعمل الانقلابيون من عسكر وفلول وليبراليون ويساريون وقوميون، على اقصاء الاسلاميين عن المشهد بشكل كامل، وتحديدا اقصاء جماعة الاخوان المسلمين والجماعة الاسلامية، على الرغم من تحالف الانقلابيين مع السلفيين والصوفيين، الذين لا تشكل السياسة جزءا من استراتيجيتهم الحياتية والدينية، فاستهداف الحالة الاسلامية يبقى هو الاصل، مما يؤكد غباء السلفيين والصوفيين الذين سيدفعون ثمنا باهضا في مرحلة لاحقة، فهذا الانقلاب لا يستهدف مجموعة حاكمة بعينها، بل يستهدف هوية المجتمع وتركيبته الاسلامية، لان الجنرالات الانقلابيون في مصر تحالفوا مع العلمانيين، على تعدد مشاربهم ومسمياتهم، وهؤلاء العلمانيون يعلنون انهم يريدون مصر لا اسلامية وعلمانية، على ان يبقى الاسلام مجرد مكون صغير محصور في المساجد او في تكايا الصوفيين او في جمعيات السلفيين، فهم يقبلون الاسلام بوصفه حالة اجتماعية مسيطر عليها ومقيدة دون ان يتحرك الاسلام او الاسلاميون باتجاه الحكم والتشريع او التعليم والاقتصاد، فالاسلام المقبول من قبلهم هو "اسلام المرجئة" الذي يتبنى شعار "ما لله لله وما لقيصر لقيصر" و "الله يحكم في السماء والسيسي يحكم في الارض" على طريقة فرعون الذي قال "اليس لي ملك مصر".
ومن هنا فان تشريح الحالة المصرية حاليا يعني ان الانقلاب ما هو الا عملية تغيير جذرية تستهدف استئصال الفكرة والمفهوم بالكامل، وهي عملية مستمرة في حالة هجوم على المجتمع كله، او بالاحرى على مكوناته الفكرية والعقائدية، واذا اردت استخدام المصطلح فان ما يجري حاليا هو "اعدام المفهوم"، وبناء مفاهيم جديدة معادلة جديدة تقوم على قوة عسكرية ترفض الديمقراطية والحرية والخيار الشعبي وتكرس عسكرة المجتمع وفرض الامر الواقع باستلاب راي الناس تتخذ من الاقصاء منهجا ومن العنف اسلوبا، مما يفصم عرى الشراكة الاجتماعية وتباعد ما بين الافراد والجماعات إلى الحد الاقصى الذي تكفي شرارة صغيرة لتحويله إلى حرب اهلية شاملة.
الصراع على الهوية في مصر يظهر في الشعارات المرفوعة في المظاهرات والتي تقول " اسلامية اسلامية رغم انف العلمانية... الانقلاب هو الارهاب .. يللي بتسأل احنا مين احنا ناس بتحب الدين" وهي جميعها شعارات تعبر عن الهوية ولا تتحدث عن صراع على السلطة، وتجعل من الصراع على الهوية والانتماء هي القضية الاساسية، وقد ظهرت دلائل حرب الهوية هذه باقدام الانقلابيين على تعيين ضباط عسكريين في مناصب مهمة لتغيير مناهج التعليم بعد الاطاحة بكافة القيادات القديمة للوزارة مثل تعيين اللواء نبيل عامر مستشارا لتطوير موارد التعليم، واللواء ماجد المناديلى رئيس قطاع مكتب الوزير، غير التعيينات غير المعلنة بالطبع، واعادة مادة تدرس تنظيم الاخوان المسلمين على انه "تنظيم ارهابي" ضمن المناهج التي تدرس في كلية الشرطة، وطرد جميع الطلاب الذين يشتبه بانتمائهم إلى التيار الاسلامي من الكلية وعددهم 70 طالبا.
ما يجري عملية اقصاء ممهنج للتيار الاسلامي غير الخانع وعلمية سحق منظمة للاخوان المسلمين وعلمية اعدام للديمقراطية التي ارتضاها الشعب المصري لصالح طغمة عسكرية اقصائية مؤيدة من قبل فلول علمانية "لييبرالية ويسارية وقومية وقبطية وانتهازية" لاتملك مجتمعة اكثر من 22 في المائة من الاصوات، وهي لم تكن لتصل إلى السلطة في مصر الا على ظهر دبابات العسكر والاحكام العرفية والطوارئ والقتل والابادة وحرق الجثث والاستعانة بالة اعلامية شيطانية متوحشة إلى الحد الاقصى تهندس الكذب والتدليس والتحريض.
hijjawis@yahoo.com