حسنا فعلت الحكومة عندما منحت، هذا الأسبوع، استقلالية للهيئات التي تعمل على مكافحة الفساد، بمنأى عن تأثير أو تدخل أي جهة كانت. فالتعديلات التي انطوى عليها مشروع قانون هيئة مكافحة الفساد ضرورية وملحة. ولا يمكن التقليل من منح "الهيئة" الصلاحيات اللازمة لإجراء التحقيق الابتدائي مع الأشخاص ذوي العلاقة بشبهات الفساد، كما منحها صلاحية التحفظ على مرتكبي أفعال الفساد، وبما يسهم في الحيلولة دون تهريب الأموال خارج البلاد بعد تقييد الحسابات المصرفية الخاصة والتحفظ على أصحابها.
ليس هذا الكلام من قبيل المجاملة للحكومة التي تزيد الانتقادات الموجهة لها على صعيد غياب الإرادة في ملف الفساد وملفات أخرى. إلا أن التوجهات الحكومية الأخيرة تشير إلى تصويب مسار ملاحقة الفاسدين، وفقا لأدوات قانونية جديدة وفاعلة. والمخاوف أن يقلل مجلس النواب من قوة هذه التعديلات التي تمنح الاستقلالية للهيئة، بعد أن عمد مجلس سابق إلى إتباع الهيئة لرئيس الوزراء، فألغى بذلك أي حديث عن الاستقلالية آنذاك.
في غمرة الجهود التي تؤسس لاستقلالية أكبر لهيئة مكافحة الفساد ومؤسسات الرقابة عموما، أحالت الهيئة، مطلع الأسبوع، اربع ملفات لقضايا فساد جديدة، ذات صلة بشركة مناجم الفوسفات، وتتضمن تجاوزات بملايين الدنانير. وثمة دور جوهري تقوم به الهيئة حاليا، يتمثل في دراسة العطاءات والعروض والتلزيم الخاصة بالشركة، ومقارنتها بتقارير الخبرة، للوقوف جيدا على ظواهر ذات صلة بهدر الأموال ومضاعفة أحجام الكلفة. ومثل هذه الأمور تنخر في جسد شركات أخرى.
في لقاء صحفي جمعني، قبل أشهر برئيس الهيئة سميح بينو، شعرت بأن الرجل يبحث عن موطئ قدم للدولة كلها للتخلص من مأزق قديم جديد متراكم، تمهيدا لإخراج الاقتصاد من عنق الزجاجة، ومحاسبة من أخطأ، وبناء صورة جديدة لأخلاقيات الإدارة والعمل العام مبنية على الشفافية والنزاهة. وتشخيص بينو وقلقه بشأن ما يحدث من فساد في شركات مساهمة عامة خصوصاً، يعني أن مؤسسات الرقابة في البلاد بدأت تعي فعلا حقيقة ما يدور.
لم ينبش أحد ذاكرة شركة الفوسفات بكل ما فيها من فساد، كما فعلت فرق "الهيئة" في السنوات الأخيرة. في حين قصرت مجالس نيابية سابقة بشأن ما كان يجري داخل الشركة، والذي يحكي قصة ثروة الأردنيين المهدورة. وكلنا نتذكر دموع النائب السابق أحمد الشقران في حرم مجلس التشريع والرقابة. لكننا بدأنا نسمع ونرى مؤخرا مصطلحات "تفريخ الشركات في القطاع الخاص"، وتسجيل شركات في جزر بريطانية، وعن علاقات النسب والقربى والمصاهرة وسواها داخل الشركة الواحدة. وكذلك عن مجالس إدارة تعيث خرابا، وفق نمطية عائلية، لمؤسسات من المفترض أنها مال عام. إضافة إلى مدققي حسابات يسهمون في تجميل صور الميزانيات وتحويل الخسارة إلى ربح، أو العكس. كل ما سبق وغيره يستحق المساءلة، تمهيدا للبدء في مرحلة أكثر وضوحا ونقاء.
يقول بينو: "أوقفنا كرة ثلج الفساد التي كانت تكبر". وهذا صحيح نسبيا، لكن المعركة طويلة، والمطلوب هو تفتيت هذه الكرة وكشف تفاصيلها، حتى نصل إلى مستوى إلغاء المجتمع لكل السلوكيات السلبية التي تنطوي على الفساد والإفساد والمحسوبيات، وذلك في موازاة دعم كل جهد صادق لاسترداد المليارات التي سُرقت في غفلة من الرقابة، وكذا القيم التي ضاعت في خبايا إدارات فاسدة.
الغد