الغناء الرديء ، مزاج رديء
سامر حيدر المجالي
15-01-2008 02:00 AM
خلافا للرأي الذي أدلى به الموسيقار محمد علي سليمان في برنامج خليك بالبيت ، يبدو أن قاعدة " الجمهور عايز كده " تَحْكُمُ بشكل شبه مطلق مسيرة الأغنية العربية في وقتنا الراهن ، وتتحمل المسؤولية الكاملة عن ما ينخر آذاننا كل يوم من غناء رديء وتراجع في الذوق والإحساس .الأغنية ترجمان المزاج فهي صنيعته ووسيلة إرضائه ، ولعل الفن كله كذلك ، لكنَّ الفن الغنائي الراقي كان دائما وأبدا يستمد مقومات وجوده من رحم يمده بالحياة وأسباب الإبداع ، رحم نخبوي رعى أسماء كبيرة محفورة في ذاكرة الأمة ووجدانها ، فعكس الغناء مزاج هذه النخب وارتقى برقيها .
من يقرأ " الأغاني " على سبيل المثال يجد قصصا كثيرة تتحدث عن رعاية المهدي والرشيد والأمين وخلفاء بني أمية في الأندلس لأسماء لامعة عرفت واشتهرت في بلاط الخلفاء ومجالس سمرهم ولهوهم . إبراهيم الموصلي وزرياب ودنانير أمثلة على رأس هذه القائمة ، فهم صنائع نخبوية وعلامات فارقة لا تمحى من تاريخ الأغنية العربية .
ولم يختلف الأمر أبدا في العصر الحديث مع بروز بشائر النهضة العربية منذ منتصف القرن التاسع عشر ، فعبده الحمولي مثلا كان نديم الخديوي إسماعيل ، ومحمد عبد الوهاب مشروع ثقافي تبناه احمد شوقي الذي كان يمثل مؤسسة البلاط في العصر الملكي في مصر ، وعبد الحليم حافظ كان الطفل المدلل لثورة يوليو والناطق الفني باسمها ، ومحمد عبده وطلال مداح هما رعاية محضة لأمراء البيان في الجزيرة العربية ، حتى كاظم الساهر باعتباره إلى حد ما علامة فارقة في زمننا هذا ، كان أيضا مشروعا تبناه نزار قباني ومن كلمات قصائده حقق قفزته الهائلة .
هذه أمثلة فقط تبين ارتباط الفن الراقي بمؤسسات الحكم والثقافة ، وكلامنا لا ينفي طبعا وجود الجيد والرديء في كل زمن من الأزمان ، ولا ينفي كذلك تجليات الفن الشعبي والثقافة المنقولة شفهيا . لكننا إن أردنا أن نتحدث عن الغناء الحقيقي الذي يبقى خالدا ويشيد مدارس متميزة عطاء وإبداعا ، فلن نستطيع أن ننكر دور النخب وتأثيرها في مسيرة المطربين الكبار ودعم الفن الجميل .
فما هذا الذي يحصل اليوم ؟ ولماذا انحدر المستوى فباتت الأغنية العربية مسخا تعبيريا لا مضمون فيه ولا جمال ؟
لقد أحدثت التكنولوجيا الرقمية ومن قبلها بقليل تكنولوجيا الكاسيتات والبث الفضائي نقلة نوعية جعلت جمهور الأغنية الذي يفرض مزاجه على مسيرتها ويرفع هذا النوع من الفن ويخفض ذاك ، جعلته جمهورا من نوع جديد لا يمت إلى النخبة بصلة ولا يعرف عن فن الكلمة واللحن شيئا ذا بال .
أصبحت الأغنية صنيعة شركات الإنتاج التي هي بدورها صنيعة المبيعات اليومية للسي دي ورسائل أل SMS ومداخيل الحفلات الجماهيرية الصاخبة وإعلانات الرعاة والداعمين . شركات الإنتاج هذه عبارة عن مؤسسات ربحية تمارس عملا محترفا يُجري في آخر الموسم عملية تقيمية لحجم المبيعات والمدخول والربحية الصافية ، وبالتالي فان عملية التقييم محكومة بالناحية المادية فقط ولا شيء غيرها ، والمادة هذه مصدرها جيب العامة وبالذات المراهقين منهم ، فأصبحوا بهذا المعنى هم الحضن والرحم ومصدر الدعم ، فمزاجهم هو المزاج المسيطر الذي يقيم الأغنية ويقرر نجاح المطرب الفلاني أو فشله . ولكم أن تتخيلوا متطلبات هذه الأمزجة وأي نفاق يمارس من اجل إرضائها ، وأي ترد تعيشه الأغنية والفن كله .
العملية متكاملة ، وهي لهاث مستمر نحو تحقيق أقصى ربحية ممكنة على حساب الفن الحقيقي والإبداع و الأخلاق واحترام الجمهور . انه فن لا يخاطب إلا جانبا واحدا من الحواس ، الجانب الذي ينفذ مباشرة إلى الغريزة ، فيصنع نجوما مكررين يشبهون بعضهم في كل شيء .. في عريهم وطريقة كلامهم وغنجهم وأفكارهم التي يخاطبون بها جمهورا غائبا عن الوعي . جمهورا يدفع في إحدى الدول العربية أكثر من 20 مليون دولار في ليلة واحدة ، كي يصوت لنجمته المفضلة ويمكنها من الفوز باللقب الذي أهلها في اليوم التالي لإصدار سي دي جديد لا يوجد فيه شيء مميز إلا المساحة الشاسعة المكشوفة من رأسها حتى قدميها ، مرورا بفخذيها اللاحمين .
قديما قال الشاعر : والأذن تعشق قبل العين أحيانا ، ربما علينا أن لا نؤمن بهذه النظرية بعد اليوم لأن الأذن العربية لم تعد تسمع إلا قهقهات وآهات وغنوجات من النوع المغلف بالسليكون ، نوع تستوي فيه الأذن العاشقة والأذن البهيمية فلا يبقى من الفن إلا اسمه ومن الثقافة إلا قشورها .
samhm111@hotmail.com