القدرة على الاتصال متعدد المعاني والأبعاد والمستويات هي سمة ينفرد بها الإنسان وحده استثناء عن بقية الكائنات التي تشترك معه في كونها حية .ذلك أن هناك وسائل اتصال فطرية وغريزية لدى كل الكائنات الحية لكنها بقيت كما هي عليه منذ بدء الخليقة لدى تلك الكائنات كما لدى النحل أو النمل وسواها من الكائنات الحية الأخرى.
أما بالنسبة للإنسان فلم يكن لديه نمط أو شكل غريزي ثابت ومقيد .. بل كان لديه استعداد أو ملكة فطرية للاتصال تمثل إطارا قابلا للملء بمحتوى غير مقيد وقابل للتطوير والمراكمة دوما .. تماما كملكة اللغة والكلام التي هي استعداد موجود قابل للملء باختلاف وتعدد اللغات وأشكال الكلام والتعبير.
وهكذا فقد بدأ الإنسان حياته أقل قدرة على التواصل من بقية الكائنات كونه لا يملك وسائل غريزية جاهزة مثلها .. فكان يقلد تلك الكائنات ويعتمد على الزعيق وإصدار الأصوات..لكن ذلك الاستعداد الفطري ما لبث أن ساعده بالتدريج على التطور حتى تبنى وطور أشكالا أرقى وأكثر تطورا وثراء تجاوزت تلك الأنماط البدائية الغريزية التي ظلت كما هي لدى الكائنات الأخرى.
وأول وسيلة اتصال طورها الإنسان هي اللغة التي هي بمثابة ترميز أو تشفير للأفكار وترجمتها إما على شكل أصوات ذات دلالات ومعان في حالة الكلام المشافه أو على شكل رسوم مخطوطة في حالة الكتابة أو الكلام المدون كما في هذه السطور التي أمامكم ..وكما في الكتب والنقوش والبردي والألواح القديمة تدرجا حتى أعقد أشكال الكتابة وأكثرها سرعة وتطورا من أبسط أشكال الآلة الكاتبة وصولا للكتابة الكهربية بطريقة الحاسوب .
واستمر الإنسان وبدوافع من خاصية كونه كائن اجتماعي بطبعه ولديه نزوع نحو التواصل ومن ثم القدرة على نقل خبراته للآخرين ومن جيل لجيل ومراكمتها - استمر في تبني وتطوير وسائل الاتصال والتواصل وتبادل الرؤى والأفكار سواء كانت هي الأفكار اللازمة لحياته اليومية واحتياجاته الآنية الملحة أو هي الأفكار المابعد يومية والتي منها ومن تراكمها - باعتبارها الوفر أو الفائض عن اليومي والملح من الحاجات - حدث تطور الإنسان وتقدمه ، أقول استمر الإنسان في تطوير وسائل التواصل من استخدام النار والمنارات والحمام الزاجل إلى أن اهتدى لكشف عظيم هو الكهرباء فكانت ثورة في عالم متعدد الإمكانيات وفتحت أمامه آفاق واسعة وهائلة جدا للاتصال ونقل المعلومة..بدأت بهاتف جراهام بيل البسيط الذي يربط بين شخصين فقط في نفس الوقت وتدرجت حتى الشبكات الذكية والعملاقة التي تربط العالم كله .. وصولا إلى الشبكات الافتراضية ( الغير فيزيائية ) والتي تتسم بالمرونة وسرعة تدفق المعطيات والمعلومات بأحجام هائلة في نفس اللحظة (broad band) وغاية في الدقة والكفاءة والسرعة بشكل مذهل يشبه كما لو كان شيئا من أساطير الماضي كبساط الريح وقبعة الإخفاء لكن متحققة فعلا .. وحيث الوصول والتواصل بسرعة الضوء والتي لا تساوي معها ولا حتى سرعة الريح شيئا .. حتى غدا جهاز الاتصال العادي وسيلة بدائية بالنسبة لعالم جديد من التقنية واسع ومتعدد الإمكانيات والوسائل سخر الأرض والفضاء .. فتحرر جهاز الاتصال الشخصي من السلك وغدا أداة متنقلة mobile يحملها الإنسان في جيبه ليبقى على اتصال بالدنيا كلها ..بل وفي الأجيال الجديدة من التقنيات لم يعد الهاتف مجرد وسيلة اتصال صوتي بل غدا أداة متعددة الأغراض والإمكانيات حيث الاتصال الصوتي أبسطها .. حتى غدا محطة اتصال ومعلوماتية متكاملة توفر عقد الندوات والمؤتمرات عن بعد وإجراء الصفقات التجارية ومتابعة القنوات التلفزيونية وربما على المدى القريب يصبح محطة ووسيلة إدارة حياتية متكاملة للكثير من مناحي حياة الإنسان (البيت الالكتروني المؤتمت والمؤسسة الالكترونية المؤتمتة ...الخ)
وقد ساعد على هذا وجعله ممكنا اختراع آخر ترافق معه ودخل على خط الاتصال الهاتفي والكهربي هو حقل الكمبيوتر والبرمجيات software ومن ثم معه الشبكة العنكبوتية .. والتي هي كثمرة تزاوج بين البرمجيات والحاسوب كتقنيات مرنة وذكية وبين الشبكات الفيزيائية والافتراضية والسواتل كإمكانيات للربط والاتصال .. حيث يغدو جهاز الحاسوب بمثابة وحدة طرفية وجهاز اتصال حي لكن هنا بإمكانيات هائلة تفوق كثيرا إمكانيات الهاتف العادي .. ومن ثم تم تناقل تلك الإمكانيات وبالتدريج وتبادلها بين تقنيتي الاتصال الهاتفي والحاسوب .. فصار الهاتف حاسوبا متنقلا ..وغدا الحاسوب بدوره أداة ذكية للاتصال .. ولم يعد جهاز الاتصال سواء كان هو هاتف شخصي أو حاسوب في ظل الشبكة العنكبوتية هو مجرد وحدة طرفية لحمل ونقل الصوت فقط .. بل غدا وهو أداة متكاملة متعددة الأغراض وذات إمكانيات لا محدودة من التواصلات المرنة والسيالة - بمعنى التدفق وبمعنى السيولة أي مرونة التحكم والتحويل إن في المحتويات ذاتها أو في طرق الاتصال - ..تواصلا تفاعليا متعدد الأبعاد والمساحات والأهداف.. وحيث الاتصال ممكن على طبقات ومستويات متعددة بدءا من الاتصال الفردي البسيط (point to point) أو شخص لشخص .. وحتى أعقد أشكال الاتصال الجماهيري : صحف مراكز بحث..جامعات أون لاين قنوات بث عبر الشبكة .. وسائل تسلية وترفيه .. حكومات الكترونية شبكات اتصال محلية LAN وشبكات اتصال واسعة WAN .. منتديات افتراضية متخصصة وأخرى للتسلية والترفيه.. مؤتمرات ومحاضرات عبر الشبكة ..تبادل لملايين التيرابايت من المعلومات والمعطيات يتم يوميا عبر الشبكة ..الخ.. وكل تلك الأشكال من التواصل الحي والفعال في الواقع تدخل فيها في لحظة واحدة كافة أشكال التواصل وطبقاته المختلفة التي طورها الإنسان عبر تاريخه مرة واحدة.
باختصار ، غدت النت باعتبارها تختزل وتكثف في داخلها خلاصة كل محاولات الإنسان وما تراكم لديه من خبرة عبر سعيه الطويل لتسهيل وسائل الاتصال وتبادل المعلومات والأفكار - غدت وهي صورة سائلة متدفقة الكترونيا للحياة الواقعية بكل ما يجري فيها .. وسيلة تختصر وتستدمج بداخلها وتعبر عن كافة إمكانيات التواصل التي عرفها الإنسان متراكمة معا في أداة ووسيلة اتصال واحدة .فغدت بذلك وسيلة اتصال تختزل وتختصر الحياة ذاتها بكل ما فيها بدءا من أكثر الأمور تفاهة وبساطة وليس انتهاء بأكثرها جدوى وجدية وفائدة و....الخ.
إن النت تفتح آفاقا رائعة لتقارب الثقافات وتسامحها وتلاقحها وآفاقا رائعة أخرى من التواصل والتفاهم ..وآفاقا أكثر روعة لأولئك الذين يبحثون عن وسط ينقل ذواتهم وأصواتهم ولا يجدون من يستمع لهم ..أو يبحثون عن نافذة يطلون منها على الدنيا فلا يجدون إلا كوى ضيقة لا تكاد تتسع للشعاع العابر لبؤبؤ العين الواحدة ..فغدت النت هي نافذتهم المشرعة على الريح والحرية والحدث .. لقد جسدت النت بصفتها وسيلة اتصال بشرية متقدمة جدا .. جسدت مبكرا وبشكل حي فكرة الحرية المتكاملة .. حرية انتقال وتبادل الأفكار والرؤى والثقافات دون قيود أو حدود ..وحيث الاتصال هنا بسرعة الخاطر أو الفكرة أو أسرع.
ولعلي لا أتحيز أو أبالغ لو قلت انه من محاسن الصدف أن ألنت كثورة في حياة البشر وكتتويج وخلاصة لكل محاولات الإنسان للتواصل المنتج الفعال, أقول أنه من محاسن الصدف أنها ليست اختراعا عربيا كما أن إدارتها والإشراف عليها بدوره ليس كذلك وإلا لكنا شهدنا آلاف ممن يهُبون للتبرع للتحريض ضدها واعتبارها أداة شيطانية وخطر – كالعادة- على الأمن القومي والثقافة والقيم و...الخ.
ورغم كل ذلك..ورغم أهمية النت التي على ما يبدو أنه ستؤول إليها كل وسائل وإمكانيات الاتصال البشري متعدد الطيف بحيث لا تعود رفاهية أو شيء للتسلية بل كضرورة للتواصل والمعرفة .. رغم ذلك وحتى لا يظن أن هذا المقال هو ترويج لسلعة .. فأقول بأن النت ما زالت غير متاحة هنا .. حيث يكلف الخط الهاتفي مع النت ما يربو على الثلاثين دينار إذا حسبنا اشتراك الخط مضافا لاشتراك وتكاليف النت وهذا السعر هو على افتراض تفريغ الخط للنت فقط وعدم استخدامه للمكالمات نهائيا .. وهو سعر ليس في متناول 90% من الأردنيين الذين لا تزيد مداخيلهم عن 300د شهريا .. لأنه يعني عُشر الدخل تقريبا وهو شيء باهظ جدا .. بينما الجهة التي تحتكر هذا القطاع حصريا في الأردن لا يبدو أن في نيتها تخفيضا ملموسا ومقنعا .. حيث أن السعر الحالي غير معقول نسبة للقدرة الشرائية للغالبية العظنى من الأردنيين .
أخيرا فليس هذا الحديث ترفيا أو رفاهيا كما قد يتبادر لأذهان البعض بأن الكاتب ترك قضايا أكثر إلحاحا ليتحدث عن سلعة كمالية لا تؤكل ولا تشرب ولا يُتدفأ بها ..بل على العكس .. لأنه من الآن بل ربما منذ وقت مضى وصاعدا فكل من لا يحسن استخدام هذه الأدوات لأنه لا يجدها متاحة أمامه فهو مثل من يجد نفسه مضطرا للتواصل عبر الزعيق والصراخ في عصر لم يعد ثمة من يفهم هذه اللغة .. فكل أشكال الاتصال ستعتمد هذا النمط من الاتصالات الذكية .. لذا فإن وجد من يرى هذا الرأي فهو يدلنا على كم هي متواضعة مطالب الأردنيين ومع ذلك بالكاد يدركونها ويجدونها إلى حد ينظرون له على أنه كمالي جدا ما بات بالنسبة لسواهم أساسي وملح جدا .
msallamk@yahoo.com