لم يخطر ببال من ابتكروا الاسطورة عن الفيل والعميان الستة الذين سقطوا عليه أن الخيال العلمي سيتولى تحويلها الى واقع، فالفضاء الآن بما يعج به من قنوات وأهواء ونفاق هو الاسطورة الجديدة، والاعلام هو ما يقدمه الذين سقطوا على الفيل من تقارير، فمن سقط على خرطومه وصف الخرطوم فقط ومن سقط على الناب وصف الناب فقط، ومن سقط على الذيل تصور أن الفيل كله مجرد ذيل!
نصدق من ونكذب من في هذا الضجيج الفضائي! فالقاتل على شاشة ما هو القتيل على شاشة تجاورها في القمر الصناعي، والمأتم في فضائية ما عرس على فضائية اخرى، والفارق بينها ثانية واحدة هي ما يستغرقه الاصبع وهو يضغط على الريموت كونترول!
كان رهان المتفائلين بغزو الفضاء انه سوف يحرر الاعلام من ارتهاناته الارضية، وان تعدد القنوات هو اغناء وتقديم لبانوراما تحيط بالمشهد من مختلف زواياه، لكن ما حدث هو أن الفيروس السياسي الرشيق سرعان ما نقل العدوى من التراب الى الاثير، وكانت الاعوام الثلاثة الأطول من ثلاثة عقود على الاقل بمقياس عدد الضحايا والمشردين مجالاً حيوياً وفسيحاً لافتضاح هذه العدوى، فثمة فضائيات لا تكف عن الكذب على مدار الساعة، ولها خبراؤها الاستراتيجيون وزبائنها ومراسلوها الذين يصلون الى المريخ وواق الواق، مقابل فضائيات تضيف الاختراع الى الكذب، وتلعب بالصورة والرقم ولديها مهارة فائقة تنافس مهارة العناكب على اصطياد الذباب!
فأي رأي عام أو خاص سوف يتشكل في هذه الحفلة التنكرية؟ ومن قتل من ما دام فض الاشتباك بين دم القاتل والقتيل ليس متاحاً الا لفقهاء الموت وباعة اللحم والفحم البشري المتجولون!
كم ستطول هذه الحكاية قبل أن تلوح لها خاتمة؟ وما هو الرقم المقرر من القتلى والمشردين الذي يتشكل منه نصاب الحرية العمياء وديمقراطية الثعلب والأرنب؟
لا نقول ان الاوراق اختلطت فقط، فهذا أمر قابل للفرز اذا توفر الصبر والحاسوب ما حدث هو ان عدة قطط برية عبثت بنسيج الصوف والحرير معاً، وعدنا الى الغابة نبحث عن طريق وعلينا ان نتدرب على المشي ونلثغ باللغة ونعيد تعريف البديهيات كلها بدءاً من الوطن حتى الحرية مروراً بالتاريخ.
ان ربع الساعة الأخير هو ما يحسم المشاهد المرتبكة، لهذا تتساقط التوقعات وترمى أقوال الجنرالات المتقاعدين ممن يطلق عليهم اسم «الخبراء الاستراتيجيون» الى الحاويات لأن صفة الحاوي هي الأجدر بمن يردد كالببغاء ما يؤمر به تحت سيف ديموقليس!!