لم يقرأ التاريخ، ولم يع الدرس، ولم يتعظ بأحداث الماضي والحاضر كل من يسلك مسلك العنف والدماء والقتل والسحل، وفرض نفسه بالقوة على الشعوب، وكل من يسعى لتثبيت أركان حكمة بالقهر والرعب والتخويف، فضلاً عن جهله بنواميس الكون وقوانين الطبيعة التي تقرر البديهية القائلة: لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه، ولكل عنف عنف مضاد، ولكل دم مسفوح انتقام، ومن رحم الظلم يولد الثأر والثأر المضاد.
فكر التكفير والعنف الحديث ولد في سجون عبد الناصر، وزنازين حكم العسكر في مصر أواخر ستينيات القرن الماضي وأوائل السبعينيات، عندما خرج شكري مصطفى بمقولة إخراج هؤلاء الحكام الذين يستبيحون قتل خصومهم، وزهق أرواح من يخالفهم الرأي السياسي من الإسلام والملة! واستباحة دمائهم وأموالهم!! ورأى أن هؤلاء الذين يمتهنون تعذيب رعاياهم بلا رحمة، والذين أقدموا على تحويل الجيوش والأجهزة الأمنية الى أدوات قتل وسحق للمواطنين! دون وخزة من ضمير أو تأنيب داخلي! ووجد فكر شكري مصطفى أتباعا ومنظرين في مصر أولاً، ومن ثم في مختلف أقطار العالم العربي الاسلامي، ينظّرون لاستخدام القوة ضد من يستخدم القوة من الحكام ضد الشعب، وإباحة استخدام العنف ضد من يستخدم العنف لتثبيت أركان عرشه.
فهمت الأجهزة الاستخباراتية العالمية هذه الحالة تماماً، وأصبحت تستثمر فيها بذكاء، وعملت على إغراء الحكام المستبدين باستخدام العنف بلا هوادة، وإعلان الحرب على «الإرهاب»! من أجل ادامة البيئة المناسبة التي تصلح لاستنبات بذور العنف والتطرف، حتى تبقى المعارك الداخلية مشتعلة، على طريق اشغال العالم العربي والاسلامي بنفسه، ومن أجل الاستمرارية في معركة التقسيم والشرذمة، واستبقاء مسلسل الفتنة قائماً ومستمراً، والعمل على إدامة العنف والعنف المضاد بلا نهاية ولا أفق، وفي كل مرة كان يتم الاعتماد على قيادة عسكرية مغامرة معبأة بوهج الزعامة ومجد البطولة المزيفة، الخالية من الفكر !والحد الأدنى من استيعاب التاريخ وحكمة الزمن !!
ما حدث في مصر في هذين اليومين يمثل فتحاً لبوابة الشرور و الدم والقتل على مصراعيها، وادخالاً لمصر في حقبة تاريخية سوداء جديدة، لتسجل صفحة أخرى من الصراع الدموي الداخلي! الذي يبدد الطاقة ويطحن الإرادة في معركة خاسرة، على حساب الشعب المنكوب والدولة المهلهلة، التي تسير نحو الضعف والهزال، أمام عدو خارجي لئيم متربص، يزداد قوة على حساب ضعفنا وتفرقنا، ويتمدد في أرضنا المغتصبة استيطاناً وتهويداً مستمراً لا يتوقف!.
يدرك خصومنا تماماً أن تحرير الإرادة الشعبية في العالم العربي يمثل البوابة الحقيقية نحو امتلاك القوة، والخطوة الأولى نحو الامساك بحبل النجاة، والتخلص من أسباب الضعف والتخلف والتبعيّة، التي تدوم بدوام القهر والأستبداد والفساد، ومن هنا يتم العمل على وأد تجارب التحرر الوليدة، وعدم السماح لها بالنمو والنجاح والنضوج، بمساعدة القوى السياسية الداخلية التقليدية ،التي ولدت من رحم القهر والاستبداد، ولا تفقه الاّ لغة الدم والقتل والسحق والاقصاء، المغلفة بقشرة وطنية زائفة، وفصاحة لفظيّة خالية من المضمون.
الأجيال الجديدة التي في أغلبيتها ليست مؤطرة سياسيّاً، ينبغي أن ترنو الى المستقبل بذهنية واعية، وبصيرة ثاقبة، ونظرة استراتجية بعيدة المدى، وعليها أن تعمل على عدم تكرار المشهد البائس، وأن تعمل على تجنب لدغ الأمة من الجحر نفسه آلاف المرات، وأن تحرص على امتلاك المنهج العلمي الصحيح في التفكير، وأن تمتلك أدوات النهوض وأسباب القوة، من خلال القدرة على رؤية الحقائق، وتمحيص الوقائع ،وادراك الزيف الكثيف، وإزالة الحجب وكتل الضباب التي تمنع المسير ،وتحد من العزم نحو الأنطلاق.
المحن التي تصيب الأمة، والفتن العمياء التي تضرب فيها بقوة، ليست كلها شراً محضاً، فينبغي أن تشكل محطات مهمة للدرس والمراجعة، وينبغي ألا تشكل عاملاً من عوامل الاحباط واليأس والارتكاس في وحل الهزيمة، بل يجب أن نجعل منها عاملاً من عوامل الوعي، وسبباً من أسباب الإصرار والتحدي ومعاودة النهوض، فقد رأينا المانيا واليابان قد تعرضتا لهزيمة ساحقة في الحرب العالمية الثانية، الاّ أنهما استطاعتا تشكيل تجربة نهضوية رائدة ،على الصعيد العلمي والتكنولوجي والاقتصادي والرقي والتحضر الاجتماعي المتميز، خلال سنوات معدودة.
هذا يدفعنا جميعا للاجابة على السؤال الكبير المتعلق بنقطة البدء، التي تتلخص بالانخراط الجمعي في مشروع تحرير إرادة الشعوب العربية تحريراً كاملاً ،بحيث لا يستطيع أي طرف داخلي أو أي قوة خارجية إفشالها، أو الانقلاب عليها، من خلال محاربة منطق الوصاية ،أو استخدام القوة في فرض وجهة نظر أو رؤية أحادية على الأمة، ومحاربة كل من يحمل هذه الفكرة ،وكل من يؤيدها ،أو يساندها ،أو يتواطأ معها.
الدستور