التاريخ ليس طيعاً لمن يحاولون ليّ عنقه أو تغيير مجراه باتجاه مصب آخر، وكذلك الجغرافيا بدكتاتوريتها وشروطها، وحين يحدث تقسيم سياسي لمنطقة ما عاشت قروناً تحت سقف حضاري وتاريخي واحد، كما يحدث لما يسمى توائم الماء أي الدول التي تقتسم نهراً واحداً، فان ما يحدث هو بعكس المحلوم به والمشتهى لمجرد ارضاء نرجسيات أو نوازع نحو السلطة.
السودان انقسم سياسياً لكن وحدة الشقاء والفقر لا تعبأ بهذا التقسيم، وقد يتكرر هذا التقسيم في أي بلد عربي، وفقاً لخطوط طول ايديولوجية وخطوط عرض سياسية، لكن البيئة وكل ما يعصف بالبلاد والعباد من شقاء يبقى عصياً على هذه القسمة، ورغم ادعاء البعض بأن الوحدة العربية أخفقت في كل مشاريعها وكانت وحدة مصر وسورية نموذجها الأبرز، فان الوحدة لا تزال قائمة، لكن بمقياس آخر.. انها وحدة تدني مستوى الدخل القومي للافراد وتدني متوسط العمر، وتدني المرتبة الاكاديمية للجامعات, الفقر بمختلف درجات خطوطه.
وقد أبدوا خيالياً وفانتازياً اذا تذكرت في حمى هذا الاشتباك وهذا الانتحار القومي لوحة للفنان غوياً، عن رجلين يحاول كل منهما خنق الآخر فيما تنغرز أقدامهما في دوامة وسوف تبتلع الاثنين وهما لا يعلمان.
ان للفقراء والجياع وضحايا الاستبداد عدواً تاريخياً واحداً يحمل عدة أسماء مستعارة، لكنهم استبدلوا هذا العدو بأعداء صغار من صلبهم، لهذا فهم يأكلون بعضهم وعدوهم يحصد الغنائم ان تبقى منهم شيء.
ولا بد لفهم مثل هذه الظواهر أن نعود الى علم النفس بأبعاده كلها النفسي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي، لأن الضحية الخرساء والعمياء التي لا تعي جلادها تفرغ غضبها كله في ضحية أخرى، فالاشتباك الآن بين الضحايا أنفسهم والهزيمة موزعة بينهم بالعدل، وهو العدل الوحيد المتاح لمجتمعات بدائية محرومة من صناعة التاريخ وقراءته معاً، لأن قدرها ان تكون مادته ووليمته، ما دام هناك من يحولونها الى وقود لولائمهم.
اننا نحتاج الى مئات العلماء في مختلف مجالات المعرفة والعلوم الانسانية ولنصف قرن قادم كي نقرأ ما يجري قراءة دقيقة ومحررة من الاسقاطات والرغائب، فالعالم العربي الآن يعاد الى ما قبل الدولة وما قبل القرن العشرين وكأنه مصاب بزهايمر وبائي.
لكن النخب الزائفة والمصنعة بأنابيب الميديا تحجب الحقائق وتريد اقناعنا بأن العصا ناي والرماد تربة صالحة لربيع طالما حلمت به الصحراء!
الدستور