لولا الجزيرة لأظلم الفضاء العربي، فقد أثبتت الأيام أن الجزيرة المتعددة لعبت ولا تزال دورا طليعيا في رفع منسوب الوعي للإنسان العربي من المحيط إلى الخليج بل وفي كل أصقاع الدنيا.
منذ إنشائها كانت الجزيرة رافعة للمعرفة ونقل المشاهد إلى قلب الحدث، وتبنت خطا مهنيا لا تحيد عنه مهما كانت الظروف، وأحدثت فارقا كبيرا اثر بشكل جذري على كثير من القطاعات في العالم العربي وعلى رأسها بالطبع القطاع الإعلامي.
ورغم أن شبكة الجزيرة أنها حكومية المنشأ والتمويل، لكن ذلك لم يمنعها من كسر احتكار الإعلام الحكومي الموجه والبليد والمسيطر عليه، مما جعلها أول قناة تلفزيونية عربية تخرج عن الإطار المرسوم سلفا وتتصرف بعيدا عن التوجيه المباشر والسيطرة الحديدية، ونأت الحكومة القطرية بنفسها عن التدخل في حيثيات صنع الأجندة الإخبارية، وتركتها تتصرف بشكل حر ومستقل على قاعدة الأهمية والأولوية مما اخرج القناة من مستنقع البروتوكول والأخبار الرسمية السخيفة، وحولها الى مستقلة، دفع البعض إلى النظر إلى "الجزيرة" بوصفها"حالة معقدة" تحتاج إلى تفسير فكيف يمكن أن تكون "ممولة حكوميا ومستقلة" في نفس الوقت، وهنا يبرز الإبداع القطري الذي صنع توليفة مبهرة من نقيضين متنافرين "التمويل والحرية" ونأت الحكومة القطرية بنفسها عن التدخل في عمل القناة او الهيمنة عليها مما أدى بالتالي إلى هيمنة الجزيرة على العالم العربي كله.
خالفت الجزيرة التيار ولم تتعامل بتحفظ مع الحالة العربية وخرجت من مربع الحسابات الضيقة والصغيرة لنظام الحكم، وشرعت الأبواب لمختلف الآراء والتوجهات والقوى السياسية والحزبية والاجتماعية وابتعدت عن "الإثارة الصفراء" والتشكيك والتشويه واغتيال الشخصية أو تصفية الحسابات، وتصرف صحفيوها بمهنية ودقة وشفافية عالية اكسبها ثقة ملايين المشاهدين في الوطن العربي والعالي، مما جعل منها المصدر الأول للأخبار حتى بين من يبغضونها، فقد قال لي مسؤول عربي ذات يوم "نحن نكره الجزيرة لكننا نضعها تحت اللحاف".. يبغضونها لكنهم لا يستغنون عنها.
تستحق الجزيرة كل التقريض والثناء ذلك لأنها أنارت فضاءنا الإعلامي المظلم وتحولت إلى جزء لا يتجزأ من حياتنا اليومية، ولأنها سلطت أنوارها الكاشفة في المناطق المعتمة التي أهملتها الفضائيات الأخرى، فهل كان مثلا للعدوان على غزة عام 2008-2009 أن يتحول إلى حدث عالمي يجتاح كل منازل الدنيا لولا الجزيرة؟ فقد كانت الوحيدة التي حاصرت قطاع غزة بالكاميرات التي تبث على الهواء مباشرة بينما تعاملت القنوات العربية مع العدوان بطريقة بائسة، بين قنوات تبنت الرواية الإسرائيلية وأخرى تعاملت بالتشكيك ومحطات رسمية أهملت نقل اخبار العدوان العدوان وتعاملت مع القتل والقصف والدمار، وكان ما يحدث في المريخ وليس على الشعب العربي الفلسطيني في غزة.
إلا أن المحطات الفارقة في تاريخ الجزيرة المستمر منذ انطلاقتها حتى الآن هي تغطية الثورات العربية، ولولاها لكانت هذه الثورات العربية "خرساء" إعلاميا، فالجزيرة دخلت إلى أعماق الثورات وواكبتها منذ أن أشعل محمد البوعزيزي النار في نفسه في 17 ديسمبر 2010 في مدينة سيدي بوزيد التونسية النائية، ليشعل المجتمع العربي كله، وتعاملت مع الحدث بكل أريحية وهدوء دون تهويل أو تهوين، في الوقت الذي كانت فيه الفضائيات العربية تتجاهل ما يجري هناك او تصور ما يجري على انه مجرد "عراك" بين شاب وشرطية صفعته، واستمرت الجزيرة في مواكبة الثورات في مصر وتونس واليمن وسوريا وكبدها ذلك شهداء وجرحى ومعتقلين.
بعد انتصار ثورة 25 يناير في مصر كانت الجزيرة جزءا من شعارات ميدان التحرير وميادين مصر كلها وتحولت عبارة " الجزيرة عاجل" إلى شعار للاحتفالات الشعبية بالنصر، مما زاد من عبء المهمة الملقاة على الجزيرة بوصفها الأداة الإعلامية الأكثر أهمية وشعبية وتأثيرا في الشارع العربي.
الجزيرة كانت دائما على الموعد، رغم المنع والتضييق والاستهداف وإغلاق المكاتب واعتقال المراسلين والصحفيين والفنيين والمصورين، وهذا ما حدث في مصر بعد انقلاب 3 يوليو المشؤوم، فقد عمدت الطغمة العسكرية الانقلابية إلى تكميم الأفواه واعتقال المعارضين كبت الحريات وإغلاق القنوات الفضائية والصحف المعارضة، ولم يبق في الساحة المصرية سوى وسائل الإعلام والفضائيات المرتبطة بالانقلابيين وغاب الصوت الأخر تماما عن الساحة الإعلامية، وانكشفت فضيحة القنوات التلفزيونية والصحف الخاصة في مصر التي يسيطر عليها الفلول والتي عملت ولا توال تعمل كمعاول هدم للمجتمع والثورة والأمة وأدوات لبث الإشاعات الكاذبة والأخبار المزورة والتزييف والتشويه والتحريض والعنصرية البغيضة ضد الإسلاميين والسوريين والفلسطينيين، وتحولت كل وسائل الإعلام في مصر إلى "منظومة تخريبية" يساندها في ذلك فضائيات عربية تحولت إلى "غرف عمليات" ضد الشرعية المصرية والرئيس المنتخب والإرادة الشعبية، وتحولت إلى بوق للانقلابيين العسكريين والفلول، وعمدت إلى شن حملات تحريضية لم يشهد العالم العربي مثيلا لها من قبل.
في ظل هذا المشهد الإعلامي القاتم كانت الجزيرة منارة مضيئة على الضفة الصحيحة من التاريخ، تتسم بالصدق والشفافية والمهنية وفتحت الهواء أمام الناس للتعبير عن أرائهم، ونقلت هتافات المتظاهرين في ميدان رابعة العدوية والنهضة وكل ميادين مصر، تماما كما فتحت الهواء أمام أنصار الانقلاب في ميدان التحرير، لكن هذا الأمر اغضب المنكرين لوجود رأي آخر في المجتمع، والرافضين لسماع أي صوت باستثناء صدى أصواتهم، فزادوا من استهدافها بكل الطرق، لكن ذلك لم يمنعها من الاستمرار في تأدية رسالتها لاسماع صوت من لا اداة اعلامية لنقل صوته.
لقد انحازت الجزيرة إلى الشعوب العربية الباحثة عن الحرية والكرامة والعدالة، فزادت شعبيتها وتحولت إلى مقصد لكل باحث عن الحقيقة، وتحولت إلى "جبهة إعلامية طليعية" تتحالف مع الأمة العربية وآمالها وأحلام أبنائها، وضخت المزيد من أكسجين الحرية في الرئة العربية، ودفعت بمزيد من الدم في شرايين الحرية، وكانت دائما مع ثقافة الأمة ومنطلقاتها ومعاييرها خلافا لقنوات الضرار التي لا تعمل إلا للهدم والتخريب والخبال.
الجزيرة هي الحليف الطبيعي للشعوب العربية وهي أفضل استثمار للعرب منذ 100 عام الأقل، وهي رافعة الوعي التي لا عنى عنها وهي الفضاء الذي يجب أن لا يغيب أبدا، لأنني لا استطيع ان أتصور الفضاء العربي بدون الجزيرة أبدا
hijjawis@yahoo.com.