مر عامان على اغتيال الرجل الوسيم جبران التويني، الذي كان يفتتح صحيفة عائلته النهار بصياحه الجميل ، ليقف الديك الذي يرمز إلى صيحته كاتبا افتتاحية يوم صعب في بلد جميل تصنع ، وتفتك به سياسية العالم العربي.
كم يمزق قلبي عندما يغتال قلم ، وتتمزق أوراق الحرية ، ومع أن البندقية كانت تنهي أحلام الثقافة، ولطالما داس الحذاء على دماء الكتاب والمناضلين إلا أن الحروف بقيت وعاشت .
شهد التاريخ العربي أحداثاً كثيرة من اغتيال الرأي، و اغتيال الفكر، واغتيال القلم إما في الساحات أو داخل الزنازين . وعلى هذا النهج يسير عصرنا الحديث عندما تتحرك البندقية دوما لإنهاء حوار أو تمزيق ورقة أو قطع لسان .
فلماذا يعدم عالم كبير ومفسر بحجم سيد قطب من قبل النظام الناصري بسبب كتاب صغير . والذي كان أولى أن يُناقش مع علماء عصره بدل أن يكون ذريعة للآخرين الذين تطرفوا وهم يدعون تطبيق أفكاره، ،أو أن يغتال الكاتب والروائي والمسرحي غسان كنفاني وهو لم يحمل أي سلاح في حياته وكان لا يتحرك دون(إبر الأنسولين) لإصابته في مرض السكري ،أو ناجي العلي لإنه يحمل دوماً في يديه ريشة، أو يُغتال في بداية عقد الثمانينات المرجع الفيلسوف الشيعي أية الله محمد باقر الصدر من قبل البعث العراقي .
الكثير من الأنظمة الإستخبراتية، أو القمعية، أو الحزب الأوحد،و أياً كان اسمها لا تعرف لغة الحوار ،أو حتى تقبل رأي مخالف إنهم يتقنون لغة واحدة لغة البندقية أو قطع الألسن ،التي ترفض دستور الحزب الحاكم الذي يخيل له انه يتكلم بلغة الله وأن أفكاره معصومة غير قابلة لنقد أو حتى المناقشة .
ليس هذا حال بيروت فقط وليس حال سكانها الذين يحلمون بالحرية وأن يكن لهم موقفاً نابعاً من إرادتهم لا من إرادة الآخرين ،وأن يدفعوا ثمن أحداث لا تسعى إلا لإرضاء الغير , أليس من الغريب أن تتحول بيروت منذ ثلاث عقود إلى غرفة عمليات لأعداء إسرائيل (كما يدعون ) وتتحمل بيروت ردة الفعل ويقصف الجنوب وتحرق القرى من أجل العروبة ودول تلك العروبة تعيش في سبات ثوري وإذ ما طالب أحد اللبنانيين تفسير أو دافع عن شعبه بجملة (شاركونا بأراضيكم التي تعد سياج أمن للغير ) اتهم بالليبرالية أو العمالة للغرب ،أو التآمر على العروبة والإسلام .
شهيد القلم جبران غسان تويتي رجل من أسرة عشقت الصحافة منذ الجد جبران الذي أسس صحيفة النهار إلى الكاتب والمفكر غسان تويني الأب، الذي يعرف كتاباته من كان متابع لمقالاته في السبعينات والثمانينات وحتى كتابة هذا المقال ما تزال مقالاته تظهر في النهار بنفسه الهادئ والعميق بمشهد لغم .
وكان يعرف عن جبران الوسيم الشكل أنه شاب متواضع وحواري ويحاول دوما مشاركة الآخر بدل إقصائه وهذا ما جعل من النهار منبراً حراً لكثير من الأقلام المتعددة . تميز جبران منذ صغره بحبه للسياسة وعلى سعة علاقاته مع الطائفة المسيحية التي ينتمي لها ، وتميز رأيه باستقلالية الرؤية والمعالجة لمجريات الحدث اللبناني حتى عن والده المفكر غسان تويني أو عن رجل في حجم خاله السياسي والوزير الحالي مروان حمادة .
جبران تويني من والد سياسي أرثوذوكسي ومن والدة شاعرة نادية تويني تنتمي إلى الطائفة الدرزية توفيت في بداية الثمانينات . ولم يعرف عن جبران الذي تمكن من التأقلم مع الطائفة المسيحية الأكثر في لبنان (المارونية) أنه مال إلى التنظيم العسكري مع أنه من أعضاء حركة التحرير ومن أعضاء لقاء قرنة شهوان وتجمع الرابع عشر من آذار أبان اغتيال الحريري . لقد حافظ على النقد السياسي وتجاوز كل الحدود حتى في فترة الوصاية السورية على لبنان حتى كان يشعر كل من هم حوله أن جبران يشتري حتفه بقلمه.
وكل من يشاهد البرامج المأرشفة التي كان يظهر فيها جبران كان أشبه بمن ينتظر موعداً مع الموت أو أشبه بمن يرقص الباليه في حقل ألغام .
كان بإمكان جبران الكاتب الثري أن يعيش في فرنسا بكل أمان بعيداً عن حروف(أبجد هوز الملغمة بحركات الموت )الأسيرة بقيود العقول القاتلة ، أو أن يكتب من هناك كما كان يفعل قبل عودته للبنان حتى يلاقي الموت . ولكنه أبى أن يكتب افتتاحية النهار من قرب برج إيفل ،وهو الذي كتب في ظروف أشد خطورة .ولكن الأيدي المفترسة كانت تنتظره .
عمليات الاغتيال في لبنان سارت بشكل خطر ومدروس فصاحب قلم فذ وشريف في زمن العولمة اشد فتكا من الصواريخ وبداية الطريق تزامنت مع القرار 1559وكادت تنهي النائب مروان حمادة الدرزي المعارض، الذي نجا بأعجوبة وجاءت عملية اغتيال الحريري غير قابلة للفشل، وكما يعرف المطلعون فإن حمادة والحريري كانا عرابا قرار الأمم المتحدة 1559 والحريري صاحب أكبر نفوذ لبناني ويملك جمهورية تتحرك بشخص ، وكان صاحب موقف محايد ولكنه محاط بالكثير من الأعداء(لأسباب كثيرة لا يوجد هنا مجال للحديث عنها) إلا انه إنضم إلى المعارضة بعد قرار التمديد للرئيس لحود الذي كان قرار التمديد له (بالغصب) الشرارة التي أشعلت بيروت.
بعد اغتيال الحريري لوحظ أن القتل يستهدف المفكرين المعارضين ليفرغ الحياة السياسية اللبنانية من أصحاب القلم المحرك لحركة ما بعد الحريري ،فتمت عمليات اغتيال مجموعة من الأشخاص أصحاب الفكر مع تواجد الكثير من أصحاب التاريخ العسكري أو بالأحرى كما تسمى(المليشيا) ولكنه استهداف فكر أكبر من استهداف مرحلة حرجة والخلاص منها فجورج حاوي الرجل الشيوعي القدير والذي فرض إخلاصه طوال حياته وكان من أعمدة الشيوعية في الوطن العربي والذي ثبت بعد 1989 أي انهيار الاتحاد السوفيتي الذي شهد انقلاباً كبيراً لمرتزقة الشيوعية الذين تحولوا إلى ليبراليين جدد وباعوا أفكارهم انتهى مشواره بشظايا مزقت أفكاره وجسده . وتبعه محاولة اغتيال الإعلامية مي شدياق لإخراس الأفواه الإعلامية ،إما اغتيال سمير قصير الكاتب الصحفي المعارض والذي يتمتع بثقافة كبيرة جداً فهو صاحب ماضي جيد في الأدب والثقافة والفكر وله كتب في اللغتين العربية والفرنسية ومع اغتيال قصير كانت الأصابع كلها تشير على جبران والذي يدير جريدة النهار ويرأس تحريرها ويحمل فكر قريب جدا من قصير والذي قدم نشاطا كبيرا بعد اغتيال الحريري وانتخب كنائب في الانتخابات النيابية الأخيرة في لبنان عن المقعد الأرثوذكسي في بيروت . وشهد أيضا تفعيل لدور الشباب حيث كان يجتمع يوميا معهم في ساحة الحرية والتي كان يحلم أن ينقل مبنى صحيفة النهار إلى جوارها.
لقد تم تصفية جبران ولم تتم حرق كلاماته التي سوف تحفظها الأجيال المحبة له ،أن من يكتب لا يموت تظل حروفه موجودة على الورق ومسجلة في الذاكرة. إن الذين اغتالوه أغبياء فقد ظن أن موت شخص يميت شعب لا مادام الخطر موجود.
والسؤال الذي يطرح من قتل كل هؤلاء من الحريري إلى جبران، إلى الذي ينتظره الدور هل هي إسرائيل هل هي سوريا هل هي الحكومة اللبنانية؟ كل يغني على يلقي حجارته على رؤوس الآخرين، و كل منا يجيب حسب ما تمليه عليه عواطفه ورؤاه.
من المؤكد أن من ضغط على الزر الذي فجر تلك الأجساد صار بعيد المنال من المحقق بريمرتس ،وستظل بيروت كحوت جميل يبتلع كل الأزهار التي تعلوه .
http://omarshaheen.maktoobblog.com/