يمثل العيد محطة لغسيل القلوب من كل أدران الدنيا، وتنظيفها مما يعلق بها من غبار الحياة المتراكم عبر الدروب الوعرة، والمسائل الشائكة المليئة بالمنغصات التي يصنعها البشر بأيديهم، ويأتي العيد ليشكل وقفة استراحة مع الذات المنهكة التي هدّها التعب وأرهقها القلق.
نعمة الإسلام دائماً تتجلى في تسهيل الحياة على المجتمعات البشرية، من خلال تزويدهم بمهارات التعامل مع الآخر، وتمكينهم من امتلاك مفاتيح القلوب، وفتح الآفاق أمام العقول الآدمية لمزيد من الفهم الصحيح لمعنى الحياة الإنسانية الراقية المتحضرة، من أجل التخفيف من عوامل النكد وضيق الصدر، والحد من أسباب الشقاء والضنك، وتعظيم مساحات الأمل والفرح، والتمسك بأسباب السعادة، من خلال الاستمتاع بالنعم والطيبات، والبعد عن الخبائث وكل ما يلحق الضرر بالنفس وبالآخرين.
فلسفة الدين العميقة تتجلى بالارتفاع بمستوى النفس الإنسانية وتزكيتها والسمو بها نحو معارج عالية، وصقل الذوق الآدمي ليكون أكثر قدرة على إدارك معنى الجمال، التي سوف تكون في متناول اليد لمن استطاع سلوك مسالك التزكية الصائبة والفاعلة، التي تجعله يشعر بأقصى درجات الفرح والحبور عندما يتمكن من إدخال السعادة على نفوس الآخرين والمسح على جراحات المعذبين، والتخفيف من معاناة البؤساء وأصحاب الهموم.
ليس هناك أكثر سوءاً من مرض الاستغراق في حب الذات المفرط، الذي يعبَّر عنه بمصطلح «الأنانية» بحيث يتجلى هذا المرض بالشعور بالفرح من خلال المتعة بشقاء الآخرين وزيادة بؤسهم ومعاناتهم، وتزداد مشاعر السعادة لدى هذا المريض كلما شعر بزيادة الفجوة بينه وبين هؤلاء المنكوبين، ولذلك جاءت فلسفة الصوم في رمضان لمعالجة هذه الأمراض البشرية التي تصيب العلاقات الإنسانية بالعطب، ومن أجل استعمال الصوم لمعالجة الخلل في تعامل الفرد مع مجتمعه الصغير والكبير والقريب والبعيد.
ومن هنا ينبغي أن نتوقف ملياً على معنى النفقة والإنفاق ، التي تأتي في عمق فلسفة تزكية النفس، حيث ربط الله عز وجل الإنفاق مع الصلاة بشكل دائم، التي تعبر عن قمة الصلة بالله فقال في مواضع كثيرة ((وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)).
ونستطيع أن نقف على معاني الحض المتكرر من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم على تعظيم الرصيد في الحياة الآخرة من خلال ما تبذل وما تنفق، من أجل إدراك معاني السعادة النفسية الغامرة، وبلوغ أقصى درجات المتعة المتمثلة بالشعور على امتلاك القدرة على إسعاد الآخرين.
وإسعاد الآخرين ليس مقتصراً على الجانب المادي فقط، المتمثل بالزكاة والصدقات، وإنما يمثل ذلك إحدى أدوات التعبير عن الحب الذي يغمر القلوب والأفئدة العامرة بالإيمان والفهم العميق وفلسفة التدين الحقيقي، بحيث يكون الجانب المعنوي أكثر تفوقاً وبروزاً في سلوك الأفراد القائم على المشاعر النبيلة التي تملأ القلب والوجدان.
وفي هذا السياق يجب أن تكون السياسة ضمن هذا المفهوم وضمن هذه الفلسفة العميقة فهي تتمثل بالقدرة على حسن إدارة التجمع البشري، بما يحقق سعادتهم وينفي شقاءهم، ولذلك ورد عن ابن عقيل الحنبلي قوله: السياسة ما كان الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، ولو لم ينزل به وحي، ولا جاء به رسول، فالسياسة ليست خداعاً ونفاقاً، ومرواغة، وتضليلاً، وفهلوة وإيقاعاً بالآخر، ونصباً للاشراك، وإشباعاً لغريزة الانتقام ونهم التسلط، وطريقاً للسطو على المال العام، وتدليساً للحقائق، وحياداً عن المبادئ، وتحطيماً للقيم.
لبّ السياسة وجوهرها يقوم على معنى الاستغراق في خدمة الناس، وحل مشاكلهم، والسهر على مصالحهم، وسد خلة جائعهم، وتأمين روع خائفهم، وحراسة حقوقهم، وتتجلى ببذل الجهد في بسط العدل وتحقيق الأمن، وصيانة الممتلكات، وحفظ الأعراض، والكرامات والمروءات من كل عوارض العدوان والتعسف.
العيد دعوة لنا جميعاً، للوقوف على جملة مشاكلنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، على الصعيد الفردي والجماعي، من أجل الشروع في مشروع مصالحة مع الذات، ومصالحة مع الآخر، رحمة بأنفسنا، ورحمة بأبنائنا، ورحمة بأوطاننا وأمتنا، ووضع حد لمعركة الاستنزاف الداخلي، الذي يشعل أوارها مغرضون ومختلون، لا يدركون فلسفة الانتماء الحقيقي للدين والوطن والأمة ومنظومة القيم السامية التي تعظم الوحدة وإصلاح ذات البين، وتدعو إلى تمتين روابط النسيج الاجتماعي، وتعزيز أواصر القربى والأخوة والصداقة، وحماية الحق العام.
الدستور