متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟
عندما يولدالإنسان حراً طليقاً، لا يملك شيئاً من هذه الدنيا، ما يشد ازره او يبقيه على قيد الحياة الا بضع قطرات غذاء من امه وعظيم حنو وحنان من والديه وأمل كبير بالنماء والبقاء.
نجد ان الفقر في الدنيا كان أسبق من الغنى في شكليه القديم والحديث، حيث لم يأتِ الغنى إلاّ في وقت متأخر، بعد أن نجحت البشرية في تنظيم أمورها، وبدأت تستقر في المدن وتتحضر حيث يزاول الأفراد التجارة والزراعة مما نتج عنه التفاوت الاجتماعي والاقتصادي في المجتمعات.
أما قبل ذلك فقد كان الناس يعيشون سواسية، ولا يشعرون بفوارق تذكر، وربما كانوا أحسن حالاً، فلا تنافس بينهم ولا تحاسد، ولا يوجد ما يدفع إلى اصطناع الفوارق.
لقد كان أصحاب الأراضي والمزارعون في القرى سواسيةً أيضاً، حيث كان الجميع يعملون في تربية الأغنام وزراعة الأراضي، ويأكلون ويعيشون مما تنتج الأراضي والأغنام ولم يكن الفرق كبيرا بينهم وكان الاقتصاد حينها مبنيا على أسس المقايضة والمبادلة.
لكن عندما نشأت المدن ودخل الناس مرحلة جديدة من العلاقات، بدأ الحديث عن الطبقات العليا والوسطى والدنيا، وبدأت الفوارق تأخذ أبعادها الفاجعة التي لم تخفف من وطأتها سوى الأديان والدعوات المبكرة إلى الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي واستصلاح الأراضي والتوزيع العادل لها في بعض البلدان لتقريب الفجوة بين الغني والفقير وبين الذي يملك والذي لا يملك.
هناك العديد من بلداننا العربية يزدادون ثراءً وجشعاً لامتلاك ما على الأرض وفي الفضاء، ولا ينطبق هذا المثل على الذين حققوا ثراءهم بجهودهم الفردية، وتنامي ثراؤهم عبر عشرات السنين بسبب كدّهم وتعبهم ووصلهم الليل بالنهار ليحققوا ذاتهم، وإنما مع أولئك الذين يخرجون فجأة من العدم أثرياء، وأثرياء بلا سبب، ويشار إليهم بالبنان باعتبارهم أصحاب رؤوس الأموال العالية التي تتصاعد بالليل أكثر من النهار.
كان الإنسان فيما مضى وإلى وقت قريب يستغرق الزمن الطويل ليصبح غنياً، أما الآن فقد استطاع بعضهم بين عشية وضحاها أن يصبح من الأثرياء الفاحشين والذين ينفقون الأموال في غير مجالاتها الصحيحة، كالأندية والصالات وغيرها من مرابع اللهو والفساد، والتي سيحاسبهم الله عليها يوم القيامة.
بينما كان بأمكانهم إنقاذ عائلات معدمة فقيرة لتسد رمق أبنائها من الجوع والفاقة وتعليمهم في المدارس والجامعات بالتبرع بكم بسيط مما يملكون من ثروات.
كما ان استثمار جزء من أموالهم في مشاريع ومصانع تستقطب الأيدي العاملة العاطلة، او انشاء المدارس والمستشفيات ومراكز التدريب وتأهيل الأنشطة الاجتماعية والثقافية ومساعدة آلاف الطلاب الجامعين الذين لا يجدون قيمة المواصلات اليومية، فبهذه الانجازات والمشاريع تبنى البلد ويخفف الحقد والاحتقان ويكون لدينا وحدة وطنية حقيقية.
يلاحظ مثلا أن لدينا في البنوك 26 مليار دينار أردني مدخرات، فلو شجع أصحابها لاستثمار جزء من هذه المدخرات في مشاريع حقيقية بتعديل قوانين لتشجيع الاستثمار، ببناء الثقة بين الحاكم والمحكوم لأمكن تخفيف البطالة وإزالة الفوارق ورفع مستوى المعدمين والمحتاجين.
من ناحية أخرى حين تبتسم لأحدهم الحياة، وتلتفت اليه الدنيا بوجهها المشرق يجد في قلبه محبة وتقديراً لأناس هم أهل لتلك المشاعر النبيلة، ويكتشف ذلك بعد مرور زمن من المواقف الانسانية النبيلة التي ترسم ملامح وتفاصيل شخصيته، حينها يكتشف أنهم أغنى كنوز الدنيا، أناس ترى فيهم البراءة والخير.
في ظل التغيرات التي طرأت على أحوال الناس في مختلف الحياة، والتي أدت إلى اختلاف نفوس البشر وعاداتهم وتقاليدهم، تغيب عنا المعاني الإنسانية التي افتقدناها في معاملتنا الاجتماعية، كالتفاني في حب الناس والإخلاص في المعاملة بعيداً كل البعد عن النفاق والخداع.
لو بحثنا عن السبب الحقيقي والأساسي في ندرة المعاني الإنسانية الجميلة التي فطرنا الله عليها كالتواضع والتقوى والرحمة والمودة وحسن الخلق وطيبة القلب وانتشار وزيادة المعاني والصفات غير الإنسانية كالأنانية والحقد والتوحش في المعاملة،لوجدنا ان السبب هو الابتعاد عن قيمنا الانسانية العظيمة التي هي طوق النجاة في الدنيا والآخرة.
فعودتنا لهذه القيم لمساعدة الآخرين، لإبعاد شبح الفقر عنهم وإسعادهم هي أعلى درجات التفاني والإخلاص والانتماء والرقي في التفكير والتصرف الحسن الذي يفوح منه رائحة المسك والعنبر والصدق والوفاء ومعاني السمو الانساني.
باختصار يظل الإنسان في هذه الدنيا مثل قلم الرصاص، تبريه العثرات، ليكتب بخط أجمل ويكون هكذا حتى يفنى القلم، ولكن يبقى له جميل ما كتب.