في المشهد .. اشتباك في كل الاتجاهات , وقد أكون منصفا إذ أميل إلى ما ذهب إليه البعض في أن الحالة عسيرة , ولكن هل من المفيد الإمعان في جعلها أكثر عسرا أم قيادتها إلى الانفراج ..؟
ربما كان الاشتباك في السياسة أقل وطأة منه في الاقتصاد , مع أن التشابك الاجتماعي فيه مصلحة تنويرية عندما تطفو الآراء إلى السطح , ويخوض فيها من يخوض والنتاج مجتمع متنوع ومتنور فيه مساحة كبيرة من الاحترام وخناق يضيق على مبتذلات التخوين والعمالة التي ما عادت موجودة سوى في أذهان من دخلوا الألفية الثانية بهواجس وخرافات خمسينيات القرن الماضي عندما كانت الجماهير تنساق كقطعان خلف شعارات أعداء العملاء والخونة .في حكاية الليبرالية في بلدنا وهي لم تنضج بعد وقد واجهت وستواصل مواجهة ما يمكن أن نسميه معركة طحن الهواء , ومن ذلك النعت بالتهور وبيع الأوطان بثمن بخس وملء المحافظ بعوائد العمولات والصفقات وأزعم أن من أتفق على وصفهم بالليبراليين كمنهج لا كشخوص إنما اجتهدوا فيما ذهبوا إليه بعيدا عن نوايا ألبستهم إياها سوء نوايا بعضنا , تماما كما هو الأمر في حكاية المحافظين المتهمون بالتخلف والرجعية والانغلاق مع أنني أزعم أن بعض من يحملون لواء هذا التيار كمنهج إن جاز لنا أن نصفه على هذا النحو لم يتقن أحدهم كنه مبادئه وشعاراته ولا حتى اتجاهاته .. بل إنهم قادوا المسيرة بما يتفق وظروف ذلك الوقت بإخلاص ونباهة ... وأوصلوا من وصل إلى عتبات عهد جديد وان فات بعضهم أن الظرف لم يعد هو الظرف وأن ما يليق حينذاك لا يمكن له أن يليق آنئذ ... وقد بقي منهم ومنهم من مضى دون أدنى إدراك بأن ثمة وصف ينتظرهم في ثنايا مستقبل ليسوا جزءا منه ,, أقول هناك اشتباك بين شبه تيارين , ليبرالي ومحافظ وصوت الثاني فيه هو الأبرز , لأن الظرف والبيئة تعود لتتكرس في خدمتهم من جديد , ولأن نهج الحرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية يعاني اليوم من أثقال المتغيرات العكسية في عالم تغير ويتغير ومن ذلك افرازات منها الفقر والبطالة والغلاء وتقلبات الأسواق , وان كانت كلها في ظني اختلالات كانت موجودة ومستفحلة , لكن انتهاء الرعوية للدولة كشف عنها الغطاء فبرزت كأقوى ما تكون عليه المشاكل , ولأن الدولة ليس من واجبهاتها رعاية الكسل ودعم التثاقل والرغبة بالكسب من دون إنتاج وهي لم تعد بحاجة لإرضاء المتكسبين كي يخفوا لاهثين خلف شعارات خمسينيات القرن الماضي وان كانت بمفردات مختلفة , وان كانت الدولة اليوم تمعن في نهج المصارحة , لتبني مجتمعا يقتنع قبل أن يحكم أو يحاكم ويؤمن قبل أن يهتف لها أو عليها .
لكنه أي الاشتباك حتى الآن لا يصيب المرمى بقدر ما يقود المجتمع إلى تيه من نوع آخر .. فكيف يمكن فض الاشتباك , إلى أن نعرف إلى أين نمضي وكيف يمكن للحوار أن يكون منتجا ؟
ربما كان المحافظون " والاسم هنا للدلالة على تيار وليس لقناعة بوجوده " , في ظرف كانت فيه الإدارة أحادية الجانب , لا شريك لها ولا رقيب , تروق لهم طبقة الصعاليك ممن يقبضون ثمن تجاوزهم لبعض الوقت لمهنة تأليب العامة في الزقاق , ولم تقعدهم تخمة أصابتهم من كثرة الموائد والمدد عن ممارسة دورهم القديم الجديد في فن التأليب , المجافي لمصلحة العامة واللصيق بالمقتلين " المعدة والجيب " .. وهاهم إذ يعودون وقد نسوا أن من ينعتونهم بالليبراليين القساة إنما في ميزانهم الطعام لكل مجتهد والمال لكل منتج وقد قطعوا صلتهم بالعطايا وقد كان أخر عهدها قريب , لكنه لن يكون وشيكا , هذا هو الفرق وهنا سر الهجوم ومن هنا مبعث الحرب , وأن كانت طبقة الصعاليك قد أجادت فاستحكمت رقاب " المحافظين لأن صوتا غير صوتهم لم يكن قائما , فهي قد فقدت لمسة السحر والشعوذة الجديدة لأن الزمن بات للعقول التي تحسب وليس للقلوب التي تجفل من الهمس واللمز ... العقول التي تريد للمجتمع أن ينمو على شكل مكافيء , لا مكان فيه لطبقة الصعاليك غير المنتجة والتي تقبض لقاء كسلها وهمسها ولمزها , دون أدني قدرة على إنتاج منفعة إلا كلا م يتبعه كلام .
هل نحن بحاجة إلى فك اشتباك ؟ .. يسمح بفسحة من العمل بدلا من الجلوس على تلة عمون المدينة لتقسيم المكاسب بدلا من تعميمها في المدارس والجامعات والقرى والبوادي والأرياف لتذهب إلى كل فم وليس إلى فم واحد دونهم لمجرد ادعاء الزعامة والقدرة على التحكم في الناس عقولهم وقلوبهم , ألا ترون معي أن زمن ... هبوا على هبة رجل واحد قد ولى , إن الناس اليوم واعون لا يسعهم سوى الصدق حتى لو كان علقما , وقد ذهبت الضلالة إلى غير رجعة تماما كما ذهبت ريح من لا يزالون على اعتقادهم بأن من دونهم قطعان شاردة يلمهم " جرس " وتفرقهم عصا ..
لا أبريء الليبراليين بعضهم من بعض أخطاء فيما ألت إليه نتائج بعض اجتهادا تهم فالعلة ليست في المنهج وصنوانه الحرية سياسية واقتصادية واجتماعية فسلامة النوايا والإخلاص لا تعفي من الخطأ سيما أن جانبه الإفراط في الدعوة للحريات حد الانحلال بتكسير قيم المجتمع باتباع مبدأ الغاية تبرر الوسيلة , كما لا ألوم المحافظين انعزالهم بعض الوقت وغضبتهم بعض الوقت أيضا لظن سكن في وجدانهم بأن قطار المكاسب والسلطة قد فاتهم فيبتذلون كل شيء ويجرحون في كل شيء يعيبون النتائج في مقدماتها لشخوصها وليس لمضامينها , من دون تقديم البديل .
كلا المدرستين أو المنهجين " ليبراليين ومحافظين " غاية في الصفاء في الأهداف وغاية في الإخلاص لمنفعة المجتمع , لكن الانحراف كما شأنه دائما لا يصيب المبدأ بل مخرجاته
فالدعوة إلى حرية المجتمع صائبة تماما كما الدعوة إلى ضبط إيقاعه وترشيد حرياته صائبة كذلك .
وفي غمرة ذلك كله تأتي جمهرة الصعاليك تفتئت الفوائد والمكاسب من حواف هذا الصراع , ومن كلا الفريقين مع استمرار ترديد صيحات الفقر و الجوع و الحرمان .. وكلما علت الصيحات كلما كانت " كروشهم " تمتلئ وتتدور وتكتنز .
فض اشتباك .. نعم نحن بحاجة الى فض اشتباك نتبين فيه الغث من السمين والحكم حينئذ فقط على النتائج .
الكاتب مدير تحرير الشؤون الاقتصادية في "الرأي".