البركة كما نعلم هي أن يكفي القليلُ من المال لتغطية الكثير من المصروفات؛ و يمكن أن يطلق مصطلح البركة على الكثير من جوانب الحياة الأخرى في المجتمع؛ فيُقال بركة الوقت و بركة العلم و بركة الولد و هكذا؛ و يعود الفضل فيها لله فهو صاحب البركة و مانحها؛ فنقول بارك الله لك و بالعامية " الله يطرح البركة". و البركة بقيت معنى روحانياً سمعنا عنها و لم نرها مباشرة، إنما رأينا أثرها. و كنا نسمع بهذا التعبير صغاراً كقصص تراثية كثيرة عن بوركت الاشياء، كأن يقال أن الشخص قد وزن المحصول فوجده لم ينقص رغم أنه قد أخرج منه الزكاة. و هذه هي التسمية بالبركة للأشياء. و لأن هذه البركة هي صِلة بين العبد و ربه فقد كان الجدود يحرصون على أن يبقوها سراً، فلا يحدثون بها الناس حتى لا تطير البركة، و كان يُنصح الشخص إذا أحس بالأشياء فيها البركة أن ينصت و لا يحدث بها؛ فكان يقال كمثل " أعطوا البركة نصْتِه، أي أنصتوا؛ ذلك أن منهم من حدّث أنه سمع صوت تزايد الأشياء، وهذه طبعا بقيت قصصاً لم يتأكد منها أحد.
أختلف الزمن فأصبحنا نسمع بشيء اسمه بركة (إيد) الموظف؛ و بركة إيده تعبيرٌ اخترعه أصحابه لتفسير الاستثمار الحرام للوظيفة التي يقوم به الشخص المعني، و هي دائما تحصل مع من يتولى المال العام أو المصالح التي ارتبطت بمال الشعب. و قد كان يتخذ شكل الرشوة مباشرة أو غير المباشرة مثلا عن طريق الهبات التي تهطل على موظف مسؤول بقدرة قادر. و هذه تكون حسب وزن المسؤول الوظيفي، و نوعية الخدمة لمن أراد أن تتيسر أموره مع هذا المسؤول. و لا أدري لماذا يكثر الطمع بالمال العام؟ ربما كونه كما يعتقد المرتشون أنه لا صاحبَ له، أو أن صاحبه قد غفل عنه. فنسمع عن موظف بدخلٍ محدودٍ قد انتفخ و تدور حتى اختفت معالمه مالياً؛ فأصبح صاحب أملاكٍ و سياراتٍ و سيجارٍ بالشيء الفلاني؛ يلبس أغلى الثياب و يتعطر بأفخر أنواع العطور ( الله يرحم جده).
و هناك شكل آخر لبركة اليد، و هو بيد الموظفين البسطاء فتكون بركة يدهم على قدر وظائفهم. وقد كانت تتلخص هذه مثلاً عند الصرافين بمقولة "ما فيش فراطة" كنوع من لهف قروش بسيطة يجمعها؛ أو أن يتم إعادة تدوير الطوابع مثلاً، أو ما شابه ذلك؛ و هذا لا يظهر عليه الثراء الفاحش كصاحبنا أعلاه.
أليوم عشت صورة حقيقية لبركة يد موظف بسيط في القطاع الخاص؛ فبركة اليد أصبحت لا تقتصر على المال العام و العمل الحكومي. فبعد أن إعتدنا على كنترولية الباصات و عدم إرجاع باقي الاجرة، شاهدت اليوم سرقة عيني عينك بإحدى محطات البنزين. و هي و إن كانت أمراً قد يبدو شخصياً إلا أنها تهم الكثيرين؛ هذه الظاهرة رأيتها مراراً بنفس المحطة التي نصحني ابني بها كونها حديثة، و عدادها ﻻ يعد الهواء. طلبتُ من عامل المحطة أن (يفلل) السيارة و تفاجأت به يحاسبي بأكثر مما يشير العداد بقروش؛ أي أنه لا يتمم الدنيار على العداد و يحاسبني عليه كاملاً. اليوم صرختُ فيهم بعد أن تكررت المسألة بأن هذا ﻻ يجوز، فنحن لسنا أغنى من صاحب المحطة، و هو لا يحتاج لقروشي أو قروش غيري. و بعد أن غضب العامل من (بخلي) اقترب رجل كبير السن يعمل بنفس المحطة قائلاً و موضحاً بعد إلحاح مني بأن فرق العداد يذهب لجيب الموظف الغلبان. لا أخفيكم أنني خجلتُ من نفسي رغم أنني صاحب الحق و قلت للرجل سامحتك يا رجل و ذهبت؛ و بقي السؤال قائماً هنا و هو أنني سامحته و لكن هل سامحه العشرات و ربما المئات أمثالي؟
هذا النمط من بركة اليد يأخذ شكل السرقة بوضح النهار، و هي سرقةٌ مغطاة إجتماعياً كلحسة كفه، أو طباخ السم بذوقه، و لا يمكن طبعاً أن تُظهر نفسك أنك أقمت الدنيا و لم تقعدها من أجل قروش.
انصرفتُ و في نفسي عدة أسئلة حول أنماط أخرى من بركة اليد نمارسها جميعاً كلٌ في مجال عمله وكلٌ حسب طول يده.
تذكرتُ صيام هذا الرجل كمثال علينا جميعاً و هل يُقبل خالصاً لوجه الله، و إذا كان يخرج صدقة الفطر أم لا و و من أي مال يخرجها بعد أن اختلط ما يحصل عليه من عرق جبينه مع تحصيل بركة إيده؟؟ توسعت الأسئلة و قلت ربما كان هذا الرجل من الذين يتظاهرون لمحاسبة الفاسدين! بل لعله أيضا يطالب بحكومة برلمانية نزيهة تجتث الفساد؟ و لعله من المطالبين كذلك بإصلاحات دستورية، من يدري؟
كثيراً ما نتساءل عن عدم استجابة الدعاء و يذّكرُ بعضنا بعضاً بالحديث إياه عن المال الحرام ( ...... فأنى يُستجاب له). و بعد أن نؤدي دور الورع ننصرف مباشرة كلٌ إلى وظيفته لممارسة بركة اليد هذه بانتظار سماعنا لموعظة أخرى عن عدم استجابة الدعاء.
بالمناسبة و عوْداً لقصة عامل محطة البنزين، فقد نصحني الرجل كبير السن(وربما يكون كبيرهم الذي علمهم السحر) أن لا أطلب في المرة القادمة (تفليل) السيارة، و إنما أطلب قيمة معينة يضعها العامل برمجة على عداد البنزين فيعطيني بالضبط ما أطلب، لكن هل ضمن لي ذلك الختيار أن لا يكون الفساد وصل لبرمجة العداد أيضا.
اللهم أغننا بحلالك عن بركة اليد هذه و عن لحسة الكف أو طباخ السم بذوقه و كل تبرير للحرام.
alkhatatbeh@hotmail.com