"الفيديو" الذي نُشِر لنخبة من السياسيين العلمانيين في مصر، يكشف حجم الاستقطاب الشديد من جهة، وخطورة الطرح السياسي الحالي الذي بدأ يُتداول، من جهة أخرى، وعبّر عنه المشاركون في تلك الجلسة، وهم يتحدثون عن ضرورة إقصاء التيار الإسلامي من اللعبة السياسية تماماً؛ ليس فقط جماعة الإخوان المسلمين، بل حتى حزب النور السلفي الذي يتهمه الإسلاميون الآخرون بالتواطؤ مع العسكر.
هذه اللغة الإقصائية بدأت تتجاوز المشهد المصري، لتجتاح أوساطاً سياسية وإعلامية وثقافية عربية تدعو إلى إقصاء تيار الإسلام السياسي من اللعبة السياسية. ولن تكون النتيجة إلا استدامة للأزمة وتجذيراً لها؛ بتصليب هذا التيار، ومنحه مشروعية شعبية مبنية على تعاطف مجتمعي، وتعزيز الاتجاه الراديكالي والمتطرف على حساب التيار المعتدل، والدوران في حلقة مفرغة ما بين الدكتاتورية الناعمة وانتخابات منقوصة. فمن هو العبقري الذي أعاد "اكتشاف" النظرية السياسية الجديدة في أوساط إعلامية وأكاديمية وثقافية عربية؟!
ذلك يعود بنا -مرّة أخرى- إلى المعضلة الجوهرية المتمثلة في قلق أوساط سياسية وثقافية عربية علمانية واسعة من "نوايا الإسلاميين"، ومصداقية إيمانهم بالدولة المدنية الديمقراطية، والخشية من استراتيجية "الأخونة" أو "السلفنة" للمؤسسات المختلفة ولثقافة المجتمع، كما للتشريعات والقوانين، والاستقواء بالعاطفة الدينية للناس على التيارات الأخرى، ما يؤدّي في نهاية المطاف إلى الوقوع في فخ الاستبدادين الديني والسياسي هروباً من الأخير؛ كالمستجير من الرمضاء بالنار!
ربما الجديد في هذه الوصفات أو الدعوات أنّها تأتي بعد "الربيع العربي"، وما شهدته الأعوام الثلاثة الماضية من انتخابات وسجالات، وما أدّت إليه من حالة عميقة من الاستقطاب السياسي الحاد ما بين النخب العلمانية والإسلامية في أكثر من دولة عربية، انتهت إلى المشهد المصري الراهن المرعب!
والسؤال الذي تطرحه هذه الجدلية هو ما إذا كان الحل لمواجهة هذه الهواجس والمخاوف من التيار الإسلامي، إنما يتمثل في اللجوء إلى العسكر والدبابة وإقصاء الإسلاميين لاقتلاع أسباب هذه الصداع، أم الحل في طريق أخرى أكثر تعقيداً وصعوبة، لكنّها أكثر نجاعة وعمقاً في النتائج والمخرجات؛ وتتمثّل في قاعدة أنّ الديمقراطية تصحح طريقها بنفسها، وأنّ ميدان المعركة مع الإسلاميين في صناديق الاقتراع، والتنوير والحوار العقلاني اللذين يعزّزان التيارات المعتدلة والبراغماتية والوسطية، ويطوّران الثقافة المجتمعية نفسها؟
المسار الأول تمّت تجربته سابقاً، لكن المسار الثاني تمّ سلقه سريعاً، بدون أن يأخذ مدى واسعاً، ثقافياً ومجتمعياً وسياسياً، مما كان سينعكس في "صناديق الاقتراع" في المرحلة المقبلة، على المدى القصير وليس البعيد. وربما هذا هو ما يدفع إلى التساؤل عن سبب إجهاض المسلسل الديمقراطي؛ هل هو -فعلاً- الخوف من الإسلاميين لدى قوى سياسية داخلية وإقليمية، أم هو العودة إلى استثمار "الفزّاعة الإسلامية" ذاتها للقضاء على الحلم بربيع ديمقراطي عربي؟!
المسار الثاني سيأتي بتغييرات عميقة في المجتمعات العربية والمسلمة، تؤسس لثقافة جديدة تشمل رافعة للديمقراطية. وربما المشكلة الكبرى التي عانت منها العلمانية في العالم العربي، واكتسبت من خلالها "سمعة سيئة"، هي أنّها فُرضت من الأعلى إلى الأسفل، وجاءت بالتحالف مع الدبابة والعسكر، كما يشرح ذلك بعمق تاريخي وفلسفي وفكري الدكتور نادر الهاشمي في كتابه "الإسلام والعلمانية والديمقراطية الليبرالية".
في حال جرّبنا المسار الثاني واستكملناه عبر صناديق الاقتراع والديمقراطية، فإنّ الضمانة لعدم اختطاف الإسلاميين للسلطة والمجتمع، تكمن أولاً في صندوق الاقتراع نفسه، وثانياً في الوعي الشعبي الثوري الجديد، وثالثاً في موقف مؤسسات الدولة الأخرى التي تمتلك القوة الحقيقية؛ فالهاجس الأكبر لا يتمثل في وجود الإسلاميين في حدود الملعب السياسي، بل تحته!
m.aburumman@alghad.jo
الغد