لا تُفهَمُ الحداثة إلا في أحضان الابتكار ، هذا ما نبهني إليه بكل تواضع أحد الأصدقاء ، مشيرا إلى أن خبرته في ميادين الفكر والسياسة ما زالت محدودة وغضة . ثم أتبع ملاحظته هذه بجملة من التعليقات التي طالت بعض تجليات الحداثة والحداثيين في واقعنا الراهن .صديقي يقول أن الحداثيين يعيشون وهما كبيرا سببه تنطعهم وغرقهم في مُسلَّمات كبَّلَتْ أدمغتهم حتى الثمالة . فكثيرون منهم يشكون من الموروث الذي يقف التعلّق به الزائد عن الحد حاجزا دون تقدمنا ومسايرتنا لركب الإنسانية ، لكنهم مع ذلك يمارسون نفس التعلّق هذا بنظرياتهم الصلدة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها ، فهم متمترسون خلف قوالب جامدة ، جاءوا بها من الخارج أو من الداخل ، هذا لا يهم ، فآلية العمل في رؤوسهم خطية ذات بعد واحد ، لا تقبل النقاش أو المحاورة .
هم والآخرون وجهان لعملة واحدة ، جميعهم مطبوعون بنفس السمات والخصائص و إن اختلفت الصورة الخارجية فقط . جوهر عقيم غير قادر على الخروج من براثن التقليد عند طائفة ، والتبعية عند طائفة أخرى . المسلمات كثيرة ، والمصطلحات صلبة غير قابلة للتفكيك ، تُلقى عليك المصطلحات مرة واحدة كجلمود صخر حطه السيل من علٍ ، والمطلوب منك إما أن تكون مع وإما أن تكون ضد .
ثم ضرب هذا الصديق المتواضع مثلا بالنقاش الدائر حاليا حول الليبرالية ، وقد أصبحت قضية ساخنة وموضوعا متداولا عند الخاصة والعامة ، علما بأنه لا ليبرالية واضحة المعالم في كل ما يجري حاليا على ساحتنا الأردنية . فقال إنها – أي الليبرالية – في حقيقتها ليبراليات ومدارس فكرية متعددة تفسر العلاقة بين الإنسان والسوق والدولة . فيها اتجاهات كثيرة تنتقل من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ضمن نطاق لا يخرج عنها . يراها بعض أصحابها نهاية للتاريخ والصراع البشري حين يصبح الإنسان سيد نفسه بلا قيد يوقفه عند حد ، ويراها آخرون نزعة فردية تهب الإنسان كل إمكانيات الحركة والتطور لكن ضمن إطار مجتمعي يتكافل فيه الناس ويقيلون عثرات بعضهم . تضمحل الدولة إلى حدها الأدنى في بعض صورها فتصبح مجرد حارس قضائي هدفه فك الاشتباكات والمنازعات ، وتبقى قوية تفرض إرادة الأغلبية في صور أخرى .
أما عندنا وكما يطرحها الحداثيون فهي كلمة واحدة تؤدي معنى جامدا ذا سمعة سيئة لأن دعاتها اقتبسوا الواقع كما هو ولم يحاولوا تفكيكه تمييزا لطيبه من خبيثه . ربما – والكلام لصديقي – تكمن المشكلة في أن إعجابنا بالشيء يجعلنا لا نرى عيوبه ، وكرهنا إياه يعمينا عن حسناته ، واستشهَدَ بقول الرسول صلى الله عليه وسلم " حبك الشيء يعمي ويصم " . هذا المنهج المنغلق الرافض للتفكيك سمة يظهر أثرها على طرفي المعادلة المؤتلفة-المتناقضة في آن معا ، بعض التراثيين وبعض الحداثيين ، فهم في حقيقة الأمر عقل واحد يعمل مستخدما نفس الآلية ، والذي يختلف فقط هو الصور التي يبرزها إلى العلن .
ثم انتقل صديقي إلى الديمقراطية وأبدى إعجابه بفهمي جدعان الذي اعتبرها " تكنولوجيا سياسية " لا تستلزم منك أن تأخذها منهجا اعتقاديا يفرض إرادة الشعب ولا شيء غيره ، ولا تستثني كذلك أي خلفية إيمانية أو اعتقاديه يقوم عليها بنيان الدولة والأمة ، وهي كذلك ليست معادلة رياضية لا تحتمل إلا صورة واحدة . إنها تكنولوجيا يمكنك استخدامها لتحترم رأي الأغلبية في أي شأن مطروح للنقاش والمداولة . لكننا وياللاسف ما زلنا تائهين بين من يريدون اقتباسها بشكلها المطبَّق في الديمقراطيات الغربية من جهة ، ومن يرونها كفرا بواحا مخرجا من الملة من جهة أخرى .
هل سبق لك أن عرفت حداثة تطبق على نفسها ذات المنهج الذي يطبقه أعداؤها – يقصد غير الحداثيين – على أنفسهم ؟ هذا ما سألني إياه صديقي مختصرا كل الكلام الذي سبق وشمل الليبرالية والديمقراطية والعلمانية وحقوق الإنسان والإسلام السياسي وكل ما تستجد به قرائحنا من كلام كبير . وأردف قائلا هذه سمة كبرى من سمات التخلف ، فمنهج التفكير في أي عملية بناء وتحديث هو الأساس ، أما النظريات والمشاريع فهي نتيجة المنهج السليم لا مقدماته .
نريد منهجا تصحيحيا لا يبقي ولا يذر ، منهجا قادرا على التفكيك والاقتباس والتأصيل ، يخضع كل شيء ضمن اجتهاد البشر للمناقشة والتقييم ، فنحن بصدد مشروع نهضوي ، والنهضة لا يصنعها الذين يحبون على أربع ولا الذين يريدون السير في الهواء بلا أقدام راكزة فوق سطح الأرض .
ملاحظة : صديقي هذا شخص خيالي والكلام لم يدر إلا ضمن رأسي .
Samhm111@hotmail.com