لا أحد يثق في جدوى جولة الرئيس الأميركي جورج بوش في عدد من دول الإقليم، طالما أنه يعتزم عدم زيارة العاصمة الأردنية عمان..! هذه هي الخلاصة التي يصل إليها من يناقش الدوافع الحقيقية لجولة الرئيس الأميركي، خاصة حين يتم التوقف المفترض عند التصريح الصحفي الذي صدر عن السكرتيرة الصحفية لبوش، في معرض التعقيب على ما ورد في مقال لواحدة من كبريات الصحف الأميركية مؤخرا.
في اليوم السابق لمغادرته واشنطن، في طريقه إلى اسرئيل، حيث المحطة الأولى لجولته، قال تصريح صحفي صادر عن السكرتيرة الصحفية لبوش أوحى تقرير صدر اليوم (الثلاثاء) في جريدة واشنطن بوست أن الرئيس بدأ يتراجع لناحية التوقعات والطموحات الخاصة بنتائج عملية سلام الشرق الأوسط، مشيرا إلى أن الرئيس سبق له وأن قال "إننا سوف نتمكن من إقامة دولة فلسطينية نهائية مستقلة وذات سيادة بحلول نهاية عام 2008." وأكدت التصريح الصحفي "إنه لم يقل ذلك مطلقا".
ثم استطرد التصريح الصحفي في إيراد جملة من التصريحات الأخيرة التي صدرت عن بوش، مؤكدا أن أيا منها لم يشر إلى ذلك مطلقا..!
حسنا..بوش لم يقل ذلك، فما الذي يدفع عربا، أو فلسطينيين إذا إلى الترحيب بجولته التي تشمل عددا من دول المنطقة..؟!
هنا يتوجب ملاحظة أمرين:
الأول: أن عدم زيارة الأردن في إطار هذه الجولة يفهم منه فقط أن بوش قرر التهرب من الإلتزامات التي سبق له أن قدمها للأردن بشأن ضرورة العمل من أجل التوصل إلى حل نهائي للقضية الفلسطينية قبل نهاية الولاية الثانية والأخيرة لبوش.
التزامات بوش التي سبق تقديمها للأردن تتلخص في:
1ـ العمل على اقامة دولة فلسطينية مجاورة للدولة العبرية. ويفترض أن بوش يفقد قدرته على الإتيان بمثل هذا العمل فور أن يغادر البيت الأبيض..!
2ـ رسالة التطمينات التي سبق أن بعث بها للعاهل الأردني، بهدف تطمين الأردن، ومختلف الدول العربية من أن رسالة الضمانات التي وجهها إلى ارئيل شارون رئيس وزراء اسرائيل في حينه بشأن تفهم حق اسرئيل في الإحتفاظ بالمستوطنات التي تمت اقامتها على اراضي فلسطينية محتلة سنة 1967 ، لا تشكل تهديدا لعملية التسوية السياسية.
الأردن يشعر بقلق عميق اتجاه أية اجراءات أو خطوات من شأنها تعطيل الحل النهائي للقضية الفلسطينية، كون ذلك يفتح الأبواب أما أخطار استراتيجية تتهدد أمن وجود الدولة الأردنية. ولذا، فإن الأكثر حرصا من بين كل الدول العربية على تسريع عملية التسوية النهائية على المسار الفلسطيني.
في هذا الإطار لعب الأردن دورا مهما في إقناع بوش وإدارته بضرورة وضع خارطة الطريق، باعتبارها آلية عمل لتطبيق رؤية بوش المتعلقة بإقامة دولة فلسطينية.
وفي هذا الإطار نجح الأردن أيضا في إدخال إشارة إلى المبادرة العربية لقمة بيروت 2002، إلى خارطة الطريق، وتوجه العاهل الأردني إلى الكونغرس الأميركي مؤخرا حيث ألقى خطابا هاما، دعا فيه إلى العمل على تسريع خطوات التسوية النهائية للقضية الفلسطينية.
هذا الإهتمام الأردني بإنجاز التسوية الفلسطينية تحديدا هو ما جعل بوش يعزف عن إدراج عمان ضمن العواصم العربية التي سيزورها، مكتفيبا باتخاذ قرار قبيل بدء الجولة يقضي بزيادة حجم المنح الأميركية للأردن خلال العام الحالي إلى 663 مليون دولار.
الثاني: أن بوش قرر أن تكون اسرائيل المحطة الأولى لجولته، وهذا يعني عدم انتاجية أي كلام ووجهات نظر سيستمع لها في العواصم العربية الأخرى التي ستشملها الجولة..!
ما فائدة كل الكلام الذي قد يقال للرئيس الأميركي، بعد أن يكون قد توافق مع ايهود اولمرت رئيس وزراء اسرائيل على كل ما يتعلق بجدول اعمال زيارته، و مارس ما يلزم من ضغوط على محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية لجعله يوافق على ما توافق عليه مسبقا مع أولمرت..؟!
ما سبق هو المبرر المنطقي للتصريحات المتشائمة التي صدرت عن الدكتور صائب عريقات، رئيس دائرة المفاوضات في منظمة التحرير الفلسطينية، والتي قال فيها قبيل وصول بوش "يجب ألا نتوقع أنه (بوش) قادم من أجل التفاوض على ما يتفاوض عليه الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي، أو اتخاذ القرارات عنهما"، مشيرا إلى أن الزيارة تهدف إلى "تفعيل ما هو موجود من اتفاقيات".
عريقات متفق إذا مع تقرير "الواشنطن بوست"، بغض النظر عن التفاصيل..!
وعلى العموم، فهذا ما عكسته المظاهرات الشعبية التي اجتاحت الضفة الغربية وقطاع غزة عشية جولة الرئيس الأميركي.
هذا ما قرأته أيضا، وإن بلغة مختلفة، صحيفة "يديعوت احرونوت" الإسرائيلية عشية الجولة، حين حددت لها خمسة أهداف هي:
الأول: إثبات أنه رغم التورط في العراق، نجحت الولايات المتحدة في بلورة ائتلاف ضد الإسلام المتطرف، يتضمن اسرائيل ودول عربية معتدلة.
الثاني: تهدئة روع اسرائيل وحلفائها العرب بعد نشر التقرير الإستخباري الأميركي المحرج، والذي بموجبه جمدت ايران في العام 2003 برنامجها النووي العسكري وهي بعيدة سنوات طويلة عن تطوير سلاح نووي، وسيتعهد مرة اخرى ببذل كل شيء لمنع مثل هذا السلاح عن ايران.
الثالث: مواصلة مؤتمر أنابوليس، وإظهاره أنه لم يكن حلما فارغا من المحتوى.
الرابع: تعزيز موقفي اولمرت وعباس الضعيفين، كي يتمكنا من التقدم في المفاوضات.
الخامس: اظهار دور شخصي أكبر للرئيس بوش في شؤون الشرق الاوسط.
ليس بالضرورة أن يكون كل ما ذهبت إليه الصحيفة الإسرائيلية صحيحا، خاصة لجهة تهدئة روع الأطراف العربية التي سيزورها من البرنامج النووي الإيراني، لك أنه ذاهب إلى هذه العواصم تحديدا كي يروعها بأخبار مبالغ فيها لجهة مستقبل المشروع النووي الإيراني، كي توافقه على ما يخطط له من توجيه ضربة عسكرية لإيران، تعتقد الدول العربية في الإقليم الخليجي، أنه ستكون لها مضاعفات خطرة على أمنها الإقليمي..ولهذا تحديدا تمت دعوة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد لحضور جلسة افتتاح القمة الخليجية ألخيرة في الدوحة.
بوش يقوم بجولته حقيقة في إطار الحملة الإنتخابية للحزب الجمهوري، ومحافظيه الجدد، بأمل ايصال مرشح جمهوري موال للمحافظين الجدد لخلافة بوش، وزيادة عدد ممثلي هذا الحزب في الإنتخابات النصفية لمجلسي الكونغرس الأميركي، التي تتزامن مع الإنتخابات الرئاسية في تشرين ثاني/نوفمبر المقبل.
ولهذه الجولة ما يبررها على هذا الصعيد..
فاللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة اعتاد على تأييد ودعم الحزب الديمقراطي، ولذا على بوش وحزبه القيام بجهد اضافي لكسب أصوات اليهود الأميركيين.
ويبدو أن هناك عدة عوامل تدعم وترجح امكانية فوز رئيس جمهوري لخلافة بوش، تتمثل فيما يلي:
أولا: عدم اقدام الأغلبية الديمقراطية في الكونغرس بمجلسيه على أية خطوة عملية لإرغام بوش على سحب القوات الأميركية من العراق وافغانستان.
ثانيا: عدم نضوج الرأي العام الأميركي لانتخاب زنجي، أو امرأة رئيسا للولايات المتحدة الأميركية.
ثالثا: تلاقي النظرة الإستراتيجية للرئيس ومحافظيه الجدد مع اسرائيل على ضرورة توجيه ضربة عسكرية لإيران. وهذا التلاقي من شأنه أن يضمن دعم اللوبي اليهودي لمرشحي الحزب الجمهوري.
ولنقرأ معا ما صرحت به كونداليزا رايس وزيرة خارجية بوش، علما أنها محسوبة على حمائم إدارته وهي في طريقها مع الرئيس إلى الشرق الأوسط: "ما أود أن أشدّد عليه هو أن الولايات المتحدة تعتبر إيران تهديدا، بل أهم تهديد بمفرده في المنطقة، ودولة تساند الإرهابيين ودولة ما فتئت تحاول زعزعة استقرار ديمقراطيات فتيّة هشّة، ودولة ذات طموحات نووية ودولة تم إقناعها بتعليق، أو وقف، التسلح لأنه مورس ضغط مكثف عليها من المجتمع الدولي. وهذا يعني للولايات المتحدة أن ضغطا مكثفا يجب أن يتواصل وأن العالم سيرتكب خطأ فادحا اذا اعتقد أن إيران ليست خطرا".
بالطبع سبق للرئيس بوش أن ذكر في مقابلات أخيرة قبيل بدء جولته "إني سأروّج لثلاثة أمور: (1) رؤيا لدولتين، اسرائيلية وفلسطينية، تعيشان جبنا الى جنب بسلام؛ (2) إقناع اصدقائنا وحلفائنا في المنطقة بأن من مصلحتهم أن يدعموا عملية السلام؛ و(3) الإعادة على أذهان الناس أن الولايات المتحدة ملتزمة بالمساعدة في إشاعة الأمن في المنطقة وأن لدينا حضورا فاعلا في الشرق الأوسط وأن هذا الوجود لن يخبو".
ولا يجوز فهم عبارة "اقناع حلفائنا في المنطقة بأن من مصلحتهم أن يدعموا عملية السلام" بغير دعم التنازلات التي يريد فرضها على الجانب الفلسطيني، ووقف المساعي المبذولة من قبل أطراف عربية من أجل استئناف حوار فلسطيني ـ فلسطيني، واستعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية.
بوش لن يبذل جهودا حقيقية خلال جولته، ولا خلال ما تبقى من ولايته منى أجل تحقيق السلام، وهناك فرق كبير بين الجهود الجدية التي بذلها الرئيس الأميركي الديمقراطي السابق بيل كلينتون خلال الأيام الأخيرة من ولايته بهدف أن يخلده التاريخ كصانع السلام في الشرق الأوسط، وبين مساعي بوش الإنتخابية المحضة. ولعل أهم الفروق بين الحالتين تكمن في:
أولا: تأكيد كلينتون على أهمية انجاز اتفاق نهائي بين الرئيس ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي ايهود باراك قبل نهاية عهده، ولا مبالاة بوش إزاء انهاء الصراع في عهده، كما يتجلى ذلك في التصريح الصحفي الصادر عن سكرتيرته الصحفية، والمشار إليه سابقا.
ثانيا: انشغال بوش حتى آخر لحظة من ولايته بأمر تدبير عدوان جديد يستهدف ايران، بدلا من تحقيق التسوية السياسية بين الفلسطينيين واسرائيل.
ثالثا: تشبع بوش بأيدولوجية المحافظين الجدد.
رابعا: تمسك إدارة بوش برسالة الضمانات التي بعث بها لشارون..تقول رايس في معرض اجابتها على سؤال صحفي قبيل بدء الجولة الراهنة بهذا الخصوص، وفي معرض دفاعها عن رسالة الضمانات عبر شرح محتوياتها "حصلت تغييرات هامة منذ خطوط هدنة 1949 ومنذ أحداث 1967. وهذه يجب أن تستوعبها اتفاقية. هناك حاجة لإتفاقية لأن إقرار الرئيس بأن هذه التغيرات تمت ويجب أن تستوعب هو إقرار من الرئيس بذلك، واستعداد الرئيس لقول ذلك.. وهو ما لم يكن أي رئيس أميركي مستعدا لقوله في الماضي، لكن هذا الرئيس أعلن أن هذه القضية يجب أن يتفق بشأنها بصورة متبادلة كي يمكن للمفاوضات، بل للإتفاقية عينها، أن تسوّي هذه المسائل، ويصبح بمقدورنا أن نتوقف عن هذا النقاش بخصوص أي هي المستوطنة من عدمها".
رايس تقول هنا إن على الفلسطينيين أن يتفقوا مع اسرائيل على اقرار وجود مستوطنات، بموجب رسالة الضمانات الموجهة من الرئيس لشارون..!
وتلخص رايس موقف إدارة بوش من الصراع وكيفية تسويته في نقطتين أخريين:
الأولى: "إن أميركا لا يمكن أن تفرض الحل، وإنما يمكننا أن نساعد في تسهيل العملية"، وبالطبع دون أن تذكر كيف..؟
الثانية: إن دولة فلسطينية لا يمكن إنشاؤها عبر الإرهاب (المقاومة)، بل عبر إصلاح المؤسسات الفلسطينية السياسية والإقتصاد.
ذات الصيغة التي أشهرت في وجه ياسر عرفات من قبل، مع فارق مهم هو تجاهل رايس أن عباس كان عنوان الإصلاح الذي طالبت به إدارة بوش ذاته في حينه..!!
وبعد، أية تسوية هي التي يعمل البعض على تسويقها عبر الترويج لجولة العدو الأميركي..؟