في صيف عام 2000 وجّه الرئيس كلنتون الدعوة للقيادتين؛ الفلسطينية ياسر عرفات، والاسرائيلية إيهود باراك، للتوجه لمنتجع كامب دافيد لعقد لقاء قمة برعاية أميركية للاتفاق على حلّ للنزاع الفلسطيني الاسرائيلي.تردد في حينه ان الرئيس عرفات كان مترددا في التلبية لاعتقاده بضرورة الإعداد المسبق، ولكن المزيد من التردد، أو التخلف عن الحضور، كان من شأنه أن يحمّل الغائب مسؤولية تفويت فرصة اخرى، ومسؤولية الفشل. ومن كان باستطاعته ان يتحمل مثل تلك المسؤولية؟!
ذهب الجميع، وبذلت جهود مضنية، وتعرض الجانب الفلسطيني بالذات لضغوط هائلة، وقيل ان الجانب الاسرائيلي برئاسة باراك - الذي كان الظن في حينه انه معتدل- قدم تنازلات هائلة من ضمنها تقسيم القدس، ومع كل ذلك فشل المؤتمر. وحتى لا يتكرس الفشل تنادى الجميع لاستدراك الموقف في لقاء لاحق في شرم الشيخ قل نهاية ذلك العام، وهناك تبلورت مواقف اوضح، وصيغت اتفاقات بشرت بشيء من التحسن والتقدم، لكن في النتيجة فشلت جهود الاستدراك في انقاذ أي شيء وتكرس الفشل، وعاد كل وفد يحصي خسائره ويلقي باللائمة على الطرف الآخر.
ذلك الوقت أطلقت اسرائيل، والاجهزة المؤيدة لها في الغرب، والإعلام المجند لصالحها والمتعاطف معها، حملة دعائية مركزة مفادها ان الفلسطينيين، الخبراء في تضييع فرص السلام، اضاعوا فرصة اخرى، واصبح عنوان تلك الحملة "عرض باراك السخي" شعار المرحلة، ورمز الترويج "للكرم" الاسرائيلي و"الحمق" الفلسطيني.
نجحت تلك الحملة في الوصول الى كل زاوية، وكل من يعنيه الامر، لاقناعه بان عرفات رفض عرضا سخيا من باراك باقامة دولة فلسطينية مستقلة على 97 في المائة من فلسطين وعاصمتها القدس، واختار طريق الارهاب بدلا من ذلك.
اشتعلت الانتفاضة الثانية وسقطت عملية السلام، وسقطت اتفاقات اوسلو، واستمر الاحتلال والمعاناة والعنف والارهاب والهجمات الانتحارية وكل ما تلى ذلك. لماذا؟ لان "عرفات فضّل الارهاب على قيام الدولة". فظل "الارهاب الفلسطيني" السبب الرئيسي وراء التدهور الامني والفوضى السياسية وغياب السلام والمعاناة.
ترسّخ هذا المفهوم بفضل الدعاية المركزة المستمرة. وعلى الرغم من مرور اكثر من سبع سنوات على الحدث، وعلى الرغم من الكثير الذي نشر وكشف الحقيقة، فلا تزال الغلبة للدعاية المغرضة على حساب الحقيقة، وتفسير ذلك في غاية البساطة؛ فكم من الناس يقرأون الكتب والمادة الجادة الرصينة بالمقارنة مع المعرضين للإعلام السهل في زمن الفضائيات والتأثير الذي يصل اليك اينما كنت من دون ان يكلفك اي عناء للوصول اليه. ما ينفق على الدعاية المنظمة للترويج لمادة مدروسة من مال وما يوفر للدعاية من امكانات يجعلها الاقدر والاكثر تفوقا امام "الحقيقة" الفقيرة. فالاعتقاد السائد حتى الآن ان باراك قدّم عرضاً سخياً وأن الفلسطينيين فضلوا الارهاب واختاروه بدلاً من قبول العرض.
جميع ما نُشر عن حقيقة ما جرى في كامب ديفيد متحديا الدعاية، وراسماً صورة مختلفة للحقيقة، لم يحدث تأثيراً كبيراً، بسبب عدم القدرة على الرواج امام طغيان الدعاية، وبسبب اتهام مصادره بعدم التعاطف مع اسرائيل. ولا بد من الاشارة بأنّ "مثقفين عربا" كانوا من بين من اعتنق فكرة "العرض السخي" وروج لها. ودان من رفضها.
مؤخراً ظهر تدوين اسرائيلي رسمي يروي حقيقة كامب دافيد وحقيقة "العرض السخي". هذا التدوين يدحض الدعاية وادعاءاتها ويؤكد ما ذهب اليه من كتبوا الحقيقة من قبل، أمثال كلايتون سويشر، وتانيا راينهارت (وهي اسرائيلية) وروبرت مالي الذي كان مستشاراً لكلنتون خلال لقاء كامد ديفيد.
التدوين الاسرائيلي هو بمثابة وثيقة أعدت من قبل جهات سياسية وأمنية اسرائيلية بعد انفضاض مؤتمر كامب ديفيد مباشرة. لتكون بمثابة دليل للساسة الاسرائيليين الذين يتولون المسؤولية تباعاً ولتعريفهم بحقيقة كامب ديفيد وبموقف القيادة الاسرائيلية خلاله، كما كان وليس كما صورته الدعاية لأغراضها. وقد لخص الكاتب جوناثان كوك اهم ما في الوثيقة، التي قال انها تسربت لهآرتس، وربما لصحف اسرائيلية اخرى، وذلك في مقال نشر بالانجليزية على موقع "الكترونيك انتفاضة" في 2/1/2008.
***
يروي جوناثان كوك، استناداً للوثيقة الاسرائيلية، ان باراك لم يذهب الى كامب ديفيد بنية التوصل الى اتفاق مع الفلسطينيين، حيث كانت لديه خطة فصل احادي الجانب جاهزة للتنفيذ، وقد اراد فشل كامب ديفيد، المخطط له سلفا كما يبدو، اراده مبرّراً لتنفيذ تلك الخطة التي تبناها شارون واولمرت فيما بعد؛ بناء جدار الفصل، واستمرار الاستيطان، وضم الاراضي المستمر منذ كامب ديفيد, بل وقبل ذلك، فإن كل ذلك جزء من تلك الخطة السابقة على كامب ديفيد.
يقول كوك: ان باراك حمل لكامب ديفيد ثلاث طلبات رئيسية. اولها الابقاء على الكتل الاستيطانية الرئيسية اسرائيلية ما يترتب عليه ضم 8% من الضفة الغربية (التي تشكل مع غزة 22% من ارض فلسطين التاريخية) لاسرائيل، وابقاء 80% من المستوطنين اي ما يقارب اربعمائة ألف مستوطن على ارض الضفة الغربية ومقابل هذه الأرض عرض الاسرائيليون تعويضا بأرض صغيرة جدا ربما في النقب.
اما الطلب الثاني فهو إبقاء السيطرة الاسرائيلية على شريط امني عريض في غور الاردن، يمتد من البحر الميت وحتى اقصى الشمال عند الجولان، ويحتل ما يقارب خمس الضفة الغربية، ويمثل اخصب الاراضي وانفعها.
ويتعلق الطلب الثالث بالقدس الشرقية، التي طالبت اسرائيل بالحيين اليهودي والارمني فيها، "وبالحوض المقدس" خارج السور. وطالبت كذلك بسيادة ما على الحرم الشريف وبتوصيل القدس المكبرة مع مستوطنتي معالي ادوميم وابو غنيم، ما يؤدي الى عزل القدس الشرقية عن الضفة الغربية، وعزل شمال الضفة الغربية عن جنوبها، لان هذه الكتل الاستيطانية الضخمة تقسم الضفة الى قسمين.
لا تُبقي هذه المطالبات الاسرائيلية في القدس سوى بقع معزولة غير متصلة وغير قابلة للاستمرار. وكذلك الامر بالنسبة للضفة الغربية حيث يترتب على بقاء المستوطنات والطرق الالتفافية، المخصصة لليهود فقط، لوصلها مع اسرائيل وحماية الجيش لها، يترتب على ذلك عزل المناطق العربية المتبقية في كانتونات "وفقاعات"، كما وصفتها هآرتس، غير قابلة للتواصل او الاستمرار.
لم يكتف باراك بذلك. بل كانت له مطالب اخرى منها اضفاء الشرعية على نتوء اللطرون؛ وهي منطقة مجاورة للقدس ثم تنظيفها عرقيا من سكانها العرب بعد عام 1967 ثم تحويلها لمحمية اسرائيلية طبيعية سميت المتنزه الكندي.
ومن تلك المطالب الاضافية ايضا كانت مطالبة عرفات بالاعتراف باسرائيل كدولة يهودية ولليهود فقط، ما من شأنه ان يلغي حق العودة المكفول دوليا، ويسقط كذلك حق الفلسطينيين المقيمين في اسرائيل كمواطنين.
تلك كما تكشف الوثائق الاسرائيلية الان بعض معالم "عرض باراك السخي". ولكن نشر هذه الوثيقة لن يضع حدا لرواج ما دفعت به الدعاية وما ترسخ في ذهن الرأي العام العالمي. كم من الحقائق ما زال مدفونا تحت ركام الدعاية وكم من السنين ستمضي قبل ظهور الحقيقة.(الغد)
** الكاتب سفير الأردن السابق في الأمم المتحدة