من السهل علينا أن نكتب، من السهل علينا أن نخطب، وليس صعبا أبدا أن نقوم بعقد ما نشاء من المؤتمرات، لنقول فيها ما يحلو لنا من الشعارات، ونسمع الناس ما يحبون أن يسمعوه.. لكن من المؤكد انه ما بين القول والفعل مسافات، ودوما أمام التحدي تذوب الفلسفات وتنهار المزايدات.. والناس هنا في بلادنا ضاق ذرعهم من كثرة ما سمعوا من الخطب، ومن كثرة ما لبّوا دعوات حضور المهرجانات، ومن تعبئة النماذج وحضور ورش تحديد الاحتياجات.. وطال انتظارهم لنتائج ذلك العدد الكبير والمتنوع من المسوحات التي تقوم بإجرائها بعض الدوائر والمؤسسات.. وأمام تحدي الاحتلال اللعين وجرائمه الرهيبة بحق الأرض والإنسان، يظهر دوما المعدن الأصيل لشعبنا وتتجلى إرادته المنقطعة النظير في الصمود والمقاومة، ويتوحد مع الأرض ويتشبث بحقه في البقاء الحر عليها، ليصنع الحضارة ويتواصل مع التاريخ. وحين نتحدث عن الأصالة والصمود والمقاومة، والتوحد مع الأرض وصنع الحضارة، فإننا نتحدث عن أناس حقيقيين موجودين في بلادنا، يعيشون هناك حيث معركة البقاء تدور في كل لحظة وثانيةبالقرب من المستوطنات وعلى جانبي جدار العزل والفصل العنصري، وما بطلتنا سميرة صالح خليف القاطنة في قرية عزون إلا نموذج واحد من آلاف النماذج لفلسطينيين وفلسطينيات يقفونومنذ زمنكالسد المنيع في وجه مشيئة دولة إسرائيل وأطماعها التوسعية الصهيونية العنصرية.
والسيدة سميرة خليف فلسطينية من أم برازيلية، ولدت وترعرعت في البرازيل، وحملت جنسية ذلك البلد، لكن يبدو أن جاذبية وطنها الأم فلسطين كانت بالنسبة إليها اشد وأقوى من كل متع الحياة ورغدها في البرازيل، الأمر الذي كانت ترجمته العمليةموافقتها على الزواج من عامل فلسطيني شاب من قرية عزون في محافظة قلقيلية، لتعود معه إلى عزون حيث يعمل هو ويكد في سوق العمل الإسرائيلي.. وهي تنجب الأطفال وتقوم بتربيتهم، وسارت حياتهم هانئة على هذه الشاكلة، إلى أن اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية، حيث وبسبب سياسة العقاب الجماعي التي مارستها سلطات الاحتلال الإسرائيلي ضد شعبنا الفلسطيني وإغلاقها سوق العمل بوجه مئات آلاف العمال الفلسطينيين أملا بتجويع الشعب وإجباره على الرضوخ لاملاءاتهابسبب هذه السياسة وجد زوج السيدة سميرة نفسه بدون عمل، وبدون مصدر رزق يؤمن له قوت عياله، وازدادت مصاعب العائلة ولم تتفتح في وجههم أية أبواب، عندها تحركت السيدة سميرة بقوة ونشاط، وقررت خوض المعركة إلى جانب زوجهاإيمانا منها بان المرأة لم تخلق للبيت والمطبخ، بل بأنها كائن لا يختلف أبدا عن الرجل إلا في الصفات الفسيولوجية، وان لديها قدرات لا تقل أبدا عن قدرات الرجل..
وبحثت السيدة سميرة حولها فوجدت بصمات الإغاثة الزراعية في كل مكان، ووجدت فيها مؤسسة تنموية تعمل مع الفلاحين، وتدعمهم وتعزز صمودهم وتطور إمكانياتهم، فاتجهت فورا إلى تلك المؤسسة متسلحة بقوة شخصيتها العظيمة، وبذكاء شديد وقاد، وتحرر من كل قيود العادات البالية، وعند زيارتها الأولى لأحد مكاتب الإغاثة الزراعية التقت هناك بسيدة تماثلها جدا بالصفات والطباع، هي السيدة وفاء جودةمرشدة جمعية التوفير والتسليف في الإغاثة الزراعية في محافظة قلقيلية، حيث قدمت لها أولا شرحا موجزا عما تقوم به الإغاثة الزراعية من أنشطة وبرامج.. وبعد أن شرحت السيدة سميرة أوضاعها عرضت عليها مرشدة الجمعية الدخول في عضوية جمعية التوفير والتسليف، فوافقت السيدة سميرة على الفور، وانتسبت إلى الجمعية أملا منها في تحقيق غايتها في الحصول على قرض مالي، تبدأ به مسيرتها، بإقامة مشروع زراعي يساعدها في تحسين مستوى دخل أسرتها، وبعد شهور من انتسابها للجمعية، وتنفيذ كل الالتزامات التي تفرضها لوائح ونظم الجمعية، تقدمت السيدة سميرة بطلب قرض بمبلغ 750 دينار أردني، بغرض إقامة بيت بلاستيكي لأغراض الزراعة، وكان ذلك في بداية العام 2004 ، وما أن اكتمل إنشاء البيت البلاستيكي ونضجت المزروعات فيه، إلا وغول جدار الفصل العنصري يصل إلى أراضي بلدتها عزون.. وكانت الكارثة حين أصبح البيت البلاستيكي الذي أقامته السيدة سميرة خلف الجدار، الأمر الذي شكل للعائلة مصيبة كبرىحيث كانت كل آمالهم معقودة عليه لإنقاذهم من الفقر والعوز.. لكن هذه العائلة لم تستسلم، وبدأت بخوض معركة جبارة ضد المحتلين، وأصرت العائلة وبعناد كبير على الوصول إلى البيت البلاستيكي، وبعد كفاح طويل ومرير وإصرار شديد، سمح المحتلون للسيدة سميرة وزوجها بالوصول إلى المناطق خلف الجدارحيث أملاكهم وخاصة البيت البلاستيكيفقامت العائلة وبسرعة فائقة بترميم شبكة مياه الري، التي كانت جرافات الاحتلال قد دمرتها، وإعادة ترتيب الغطاء البلاستيكي، قدمت العناية الكاملة للمزروعات إلى أن نضجت، وعندها واجهت مشكلة إذ كيف سيتم نقل صناديق الخضار من المزرعة إلى السوق ببلدة عزون عبر البوابات، ولا يسمح لهم المحتلون بإدخال وسيلة نقل إلى المناطق داخل الجدار، لكن عزيمتهم لم تكل وتحملوا مزيدا من المشاق، وصارت هذه المرأة تحمل على رأسها صناديق الخضار لتوصلها إلى البوابة، وهو عمل مرهق لأبعد الحدود، ولولا انتمائها لأرضها وروح التحدي الهائلة التي تتمتع بها لهجرت الأرض وتركتها نهائيا.. وتعودت السيدة سميرة مع الأيام على هذا النمط من الحياة، وعلى تحدي جنود الاحتلال، وصار الجنود يعرفونها بالاسم، ويستعدون عند قدومها كل مرة لمعركةأحيانا كلامية وأحيانا باللطمات—وأجبرتهم أخيرا على القبول بتنقلها اليومي عبر البوابة، لترعي مزرعتها وتعتاش على الدخل الذي تحققه من بيع منتوجاتها..
وتقول السيدة سميرة بلهجة لطيفة جدا وبلغة عربية ركيكةكونها تعلمت اللغة العربية بعد أن عادت فقط إلى الوطنتقول : ( جنود ولاد كلب، أنا ما بخاف منهم، وأنا لازم أروح كل يوم لمزرعتي واعمل هناك.. هاي ارضي وارض جوزي وأولادي، والجدار ظلم كبير إحنا ما بنقبله وراح نظل نرفضه طول العمر ).. وتقول السيدة وفاء جودة مسئولة جمعية التوفير والتسليف : إن السيدة سميرة تشارك دوما في كل الأنشطة الوطنية ضد الجدار وضد الاستيطان، وتتميز بحبها الكبير للعمل التطوعي، وتواظب دوما على حضور الورش التثقيفية في قضايا حقوق النساء، وتشارك في كل دورات بناء القدرات التي تقيمها الجمعية.
عزون – 6/1/2008