أخيرا، مياه الديسي عندنا. المشروع الحلم تحقق، إنما بكلفة مضاعفة، بسبب التأجيل لسنوات. فقد كانت الكلفة تقدر قبل أكثر من عقد بحدود 300 مليون دينار، ووصلت إلى 700 مليون دينار عندما تقرر أخيرا تنفيذ المشروع من خلال شركة تركية.
وما بين البحث عن مصادر تمويل، والخلاف حول صيغة التنفيذ، والمحاولات من قوى الفساد للاستيلاء على المشروع، تدحرج القرار عاما بعد عام. ولبعض الوقت، نجحت قوى الفساد في خطف المشروع، وبتواطؤ من مسؤولين في مراكز القرار هنا وهناك تحت الغطاء المعلن للقوات المسلحة، وفي الواقع لصالح شركة "موارد" وخالد شاهين. ولم يصبر شاهين أسابيع حتى يستولي على 12 مليون دينار ثمنا لدراسة عن المشروع لم تكلف أكثر من بضعة آلاف من الدنانير، فكم يا تُرى سيتم تدفيع الدولة على كل المشروع؟
لكن لحسن الحظ تم ايقاف هذا المسار الكارثي بقرار مباشر من جلالة الملك. وبالمناسبة، فإن وزير المياه الحالي د. حازم الناصر بالذات، كان من أبطال مقاومة هذه المؤامرة. وقد كان وزيرا للمياه في حينه، ودفع الثمن بإزاحته من منصبه.
المشروع نُفّذ في النهاية بطريقة الـ"بي. أو. تي" (BOT)؛ حيث تتعهد شركة بتنفيذ المشروع الذي يكون ملكها مؤقتا، وتبيع الخدمة (أي المياه) للحكومة على مدار 40 سنة، حتى تسترد كامل الكلفة وأرباحها. ثم تعيد الشركة ملكية المشروع للدولة. وهذه الطريقة ترفع كلفة المتر الواحد من المياه. وهي فعلا رفعتها من حوالي 70 قرشا إلى أكثر من 90 قرشا. وقد اضطرت الحكومة إلى المساهمة ودفع 200 مليون دينار من كلفة المشروع، حتى لا ترتفع كلفة شراء المتر المكعب من المياه أكثر من ذلك. ولو أن لدينا قطاعا عاما كفؤا وملتزما، تمت تربيته على تقاليد صارمة من العمل والإنجاز، لأمكن للحكومة، بقروض مباشرة محلية وخارجية، أن تنفذ هي المشروع بكلفة لا تزيد على النصف. وإذا لم تخني الذاكرة، فإن الناصر على ما أعتقد كان مع إنجاز المشروع مباشرة من الوزارة، بالتعاون مع مقاولين فرعيين ينفذون مفاصل المشروع المختلفة.
أيا يكن الأمر، فقد أنجز المشروع، وهو يحل جزءا من مشكلة المياه. لكن هذا القطاع بحاجة إلى استراتيجية واضحة وقوية، حددها الوزير بأربعة محاور، أضيف عليها من جهتي محورا آخر هو حسم قضية الخصخصة في هذا القطاع.
وأنا لا أرى في تجربتي شركة "مياهنا" وشركة "مياه اليرموك" أي دروس إيجابية، بل العكس؛ فنحن نحتاج فقط إلى خصخصة فرعية لبعض الأنشطة من خلال مقاولين فرعيين لتحسين الأداء وضمان إنجاز العمل، وليس إنشاء شركات خاصّة يسلم لها قطاع المياه، فترفع الكلفة وتصبح منجما للامتيازات؛ إذ يتقاعد كبار المسؤولين من مناصبهم في الوزارة، فيذهبون إلى مناصب جديدة في هذه الشركات، برواتب وامتيازات رائعة. وفي نموذج "مياه اليرموك"، شارك الإخوة الفرنسيون في إدارة الشركة بهذه الامتيازات التي أكلت وفاقت قيمة المساعدة الأوروبية، قبل أن يقرر الوزير الحالي وقف المهزلة.
jamil.nimri@alghad.jo
الغد