كثيرة هي الحالات التي صرنا نرى فيها زُمراً من الأفراد وحتى الدول، تقف على أبوب صُنّاع القرارات السياسية العالمية، تستجديها وتسألها وتشحدها، مبدية كل استعداد للتنازل عن حقوقها وعن كراماتها بل وعن سياداتها، نظير فائدة عابرة هنا، أو كِسْرة من رغيف هناك... حتى أن بعضها راح يفتخر بأنه تابع إلى هذه الجهة أو إلى تلك، متناسية أن الدول القوية أوّلُ ما تُعْدِم، بعد انتصارها أو هزيمتها في أي معركة، أولئك الجواسيس والعملاء، الذين عملوا لحسابها والمتخاذلون والساقطون والمتنازلون عن شرفهم، والبائعون لضمائرهم، والخائنون لأوطانهم. أما الدولة التي تبيع نفسها في أسواق النخاسة، وفي حواري العواصم تنادي على خمْرها "الزِّق بدينار"! و"الخنوع بدرهم"، والتبعيّة "زيادة البيّاع"، فهي قد فقدت كل مقوّمات الدولة، ليست القانونية فقط، ولكن حتى الشرعية أو الإنسانيّة أو الأخلاقية.
وللأسف فإن هذا ما نجده كل يوم في زمننا الرديء الذي نعيش، حيث سقطت كل القيم في مستنقعات العفن والتردّي والدمار، وانهارت كل المبادئ والمُثل، وداستها أقدام الاستكبار الدولي وقوى الشر التي، وللعجب، أنها لا تزال تسمى نفسها "بالعالم الحر" أو "بمنارات الديمقراطية" أو "بحامية حقوق الإنسان". ومن المدهش، من جهة ثانية، أنها كلها من دول الشّمال التي تعزف كل يوم أناشيد الحرية والإنصاف والعدالة، وهي تدري أنها كاذبة ومنافقة.
الحق كل الحق ليس على المستقوي، ولا على المتفرد بالسلطة، ولا على الجائر، إنما كل ذلك هو واقع، بالضرورة، على كاهل المتخاذلين والمهمّشين لأنفسهم واللاهثين وراء سراب الغرب والحضارة الزائفة، ليلتقطوا بعض الفتات من تحت أقدام اللئام.
وفي مستقر القول، فإننا نلقى عدداً منا، نحن العرب، قد تدثّر بعباءات سوداء مملوءة بالسوء، فراح ينتمي إلى هذا الشرق أو إلى ذاك الغرب، يبيعهما كل ما يملك من مقومات السيادة. وأكثر من ذلك فقد رأينا أن كلا الجهتين، الشرقية والغربيّة، تعملان لتحقيق مصالحهما، ولا يهمها إن انتصرنا أو هُزْمنا، إن سمنّا أو هزلنا، فكل ما يعنيهما أن تمتلئ أوداجهما وتنتفخ جيوبهما، حتى لو كان ذلك على حساب أن نتحوّل إلى متسولين على أبوابهما، تلقى إلينا اللقمة أو اللقمتين فنتبعهما نهرف، لا يهمنا إلاّ أن تكونا راضيتين عنا.
لقد قضيا من أعمارنا ردْحاً من الزمان نستجدي رضاهما، ملتحفين مقولة "أن تنام مظلوماً خير من أن تنام ظالماً"، وادّعينا، زوراً وبهتاناً، أن هذه من تعاليم السماء.
أليس من الحقيقة أننا لم نقرأ سطراً من سطور تاريخنا الأوّل، التي تقول كلّها إن لا حبّة رمل من صحرائنا، أو حَجَراً من حجارة ودياننا، قد رضيت أو رضي أن تدوسه أقدام الغزاة والطامعين. لقد سرّجنا خيولنا وهمزناها فراحت تسابق الريح نحو النصر. هذا ما خطّه أجدادنا، وهذا ما رضعوه مع حليب أمهاتهم، فلماذا تخاذلنا فخذلناهم؟ ولماذا بعنا أنفسنا فخنّاهم؟ بنوا "الدولة" على معطيات العزّة والكرامة والشهامة، ولكنا اليوم بتنا نعيش في دولة الانهزام والانهيار؛ حتى أصبحنا، بحق، نعيش في الزمن الردئ، فماذا نحن فاعلون؟! هل نستمر بالاسترزاق السياسي أم نثور لأجدادنا ولوجودنا؟!