إلى خالد محادين الذي سافر ليستبدل بكبده العليلة كبدا أخرى جديدة وعاد دون ذلك:قبل أربع سنوات، كان رئيس تحرير الرأي الأستاذ عبد الوهاب زغيلات يبحث عن كاتبة من جنوب المملكة ليعطيها فرصة للكتابة في الرأي، فاستشار في هذا الأمر الصديق العزيز، الكاتب والشاعر خالد محادين الذي اقترح اسمي، فهاتفني رئيس التحرير وأخبرني أنه يرغب بإعطائي هذه الفرصة، فقلت له : أنني كنت أتمنى ذلك (قبل) عشرين عاما! فرد على الفور : الحمد لله أننا أعطيناك هذه الفرصة (بعد) عشرين عاما! بعد انتهاء المكالمة أغلقت باب مكتبي، وكدت أجهش بالبكاء، فليست هذه الفرصة الوحيدة التي جاءت متأخرة كل هذا الوقت، بل ولعل غيرها لا يأتي! ثم فكرت : كم كانت حياتي ستكون مختلفة لو أن هذا حدث في أوانه، فأقصى ما كنت أتمنى في بلدي أن أقول للناس كلمتي! لقد جاء خالد محادين إلى مكتبي في جامعة مؤتة، يحمل أعماله المميزة بعد أن حدثته عني ابنة أخيه الرائعة (وسن) التي كانت تدرس لدي أحد المساقات الجامعية، وبدلا من أن أرحب به كما ينبغي فاجأته بالقول، وقبل أن يستقر في مقعده : هل تعلم أيها الشاعر، أنك مسؤول عن معظم خيباتي في الحياة؟! ذهل، وأحس بالحرج، ثم قال بسرعة : كيف؟ قلت له: قرأت لك يوما مقطعا تقول فيه : لا تعاتبي الآن لحظة تدركين فيها لماذا كان عليّ أن أمضي.
إذ حين يكون الفرح قليلا يكون أقل الوفاء أن نترك حصتنا فيه.
أن نتركها للّذين لم يسافروا كثيرا، ولم يحزنوا كثيرا.
ولم يحبوا كثيرا، ولم يحاصرهم البحر بين التعب والموانئ الموصدة! انتهى الاقتباس.
وهكذا بقيت أرى الأفراح صغيرة، وأحمل قلبي دائما وأرحل بعد أن أترك حصتي فيها، حتى إذا نظرت الآن خلفي رأيت كما هائلا من الأفراح الكبيرة التي لم أرها في حينها كما كان ينبغي! وكانت كلماتك هي السبب، وهكذا ألست مسؤولا بصورة أو بأخرى عن تلك الخيبات؟! أطرق الشاعر يومها كثيرا ولم يجب، وبدلا من ذلك غرق في الحزن والتفكير معا! خالد، أيها الصديق، لم أعتذر لك وقتها عن سوء استقبالي، لأني لم أقصد ذلك، وإنما أردت أن أبين يومها إلى أي حد يمكن للكلمة أن تؤثر في الناس، وأن تصنع أقٌدارهم أحيانا، وأن تتحكم في خياراتهم، وأن تبني حياتهم، وأن تغير مجتمعاتهم، وأن تضيف لهم شيئا جديدا في الحياة! خالد، هأنا بعد أربع سنوات أشاركك هذا الدور، وأشارك غيري هذه المسؤولية، وأفكر بمن هم مثلي : نحن الذين بقينا منسيين ومهمشين فترة طويلة دون أسباب وجيهة، هل هناك أمل أن يقدمنا يوما إبداعنا؟ نحن الذين نقدم الأفكار للمجتمع، ونساعد في تشكيل الرأي العام، ونساهم في تفتيح القضايا العامة وبناء الوعي حولها، وحفز الناس على الانتماء وحب الوطن والالتصاق بترابه، هل حقا تقل أدوارنا أهمية عن غيرنا؟ أم أن التجاهل وإنكار الوجود وتغييب الأدوار أصبح ظاهرة ثابتة وسمة لدينا لا تتغير؟! أعلم أن الصحفي الصادق والكاتب الملتزم يكاد يكون شهيدا، ولكن ألم تقل لي دائما أن الحياة تستحق المجازفة؟ .. هأنت اليوم تقاتل من أجل الحياة، وتخبرني - حين سمعت عن صديقك الذي انتحر بسبب مرض شبيه بمرضك - أنك لست مستعدا للتنازل عن دقيقة واحدة من حياتك . ولك الحق في ذلك، فقد كانت حياتك دائما فرصة عظيمة ليختبر كثيرون مواقف ومعاني كبيرة في الحياة ما كانوا ليعرفوها لولا الإبداع، ولولا الكلمة الحرة الصادقة النزيهة، التي لا تزين الباطل ولا تزيف الحقيقة، ولولا الإحساس المرهف بالجمال، والأمل بحتمية التغيير، ولقد صدق درويش يوما حين قال : نحن لا نكتب أشعارا ولكنا نقاتل! ومعركتك هذه ليست الأولى ولن تكون الأخيرة! على أني وكما أنا في دعائي لك بالشفاء لست متشائمة، ولكني أتساءل وأنا أرقب حماس الشباب : هل بقيت فرص أفضل للمبدعين في بلدنا؟! وإذا كانت موجودة فمتى يكون وقتها؟ الآن؟ أم بعد عشرين عاما أخرى؟! تمنياتي لك بالشفاء العاجل، ولقلبك المليء بالأمل، الفرح والطمأنينة، وذلك دعاؤك لي دائما، عسى أن تجد في غد ما يثلج صدرك ويبهجك ويريح ضميرك! ولرئيس تحرير الرأي من قبل ومن بعد، أجمل تحية.
reemmr42@yahoo.com