لم يشفع الفقر والحاجة لمتلقي المعونة الوطنية عند موظفي شركة البريد وصندوق المعونة الوطنية التابع لوزارة التنمية الاجتماعية، المعتصمين منذ أكثر من أسبوعين، حتى يراجع هؤلاء الموظفون قرارهم بالتوقف عن العمل سعيا لتحقيق مطالب مالية.
الفقراء والمهمشون هم الضحية لواحد من أشد أشكال الابتزاز، حينما رفض المعتصمون تسليمهم شيكات مخصصاتهم الشهرية على مدى ثلاثة أيام، رغم اقتراب شهر الصيام.
عدد المتضررين ليس قليلا، بل يبلغ نحو ربع مليون نسمة؛ إذ يصل عدد الأسر التي تستفيد من صندوق المعونة إلى 180 ألف أسرة، تضم نحو 250 ألف فقير.
المشكلة أن المستفيدين من المعونة الوطنية يعانون بدون اعتصام موظفي البريد، وينتظرون رواتبهم الشهرية بفارغ الصبر، وهي التي بالكاد تكفي متطلباتهم.
طوابير الفقراء لم تقدر على تغيير الموقف، والموظفون الذين يتلقون رواتبهم من دافعي الضرائب ظلوا مصرين على اعتصامهم لتحقيق مطالبهم، بعيدا عن دورهم الإنساني؛ فلم يفكروا في الضرر الواقع منهم على الشريحة الأفقر والأضعف التي يخدمونها، من أرامل، وأيتام، وفقراء، ومسنين، وذوي احتياجات خاصة.
العاملون في المؤسسة الاستهلاكية المدنية تسيّدوا المشهد في أول أيام الصيام؛ إذ مضوا في اعتصامهم الذي تسبب في إغلاق 42 من أصل 70 سوقا من أسواق المؤسسة، ما يعني أن أكثر من نصف الأسواق مغلقة، رغم أنها تخدم بالعادة متوسطي ومحدودي الدخل. وقد دخل اليوم الأول للصيام والأسواق مغلقة في وجه الناس، والغرض أيضا تحصيل مكتسبات مالية، مقدارها 50 دينارا شهريا بدل صعوبة عمل.
غالبية أسواق المؤسسة التي أغلقت أبوابها في وجه المتسوقين متواجدة في مناطق الجنوب، وهي المناطق الأشد فقرا واحتقانا التي تضم كثيرا من جيوب الفقر؛ إذ تتركز الاعتصامات في معان والطفيلة والكرك، إضافة إلى إربد والزرقاء.
التوقف عن العمل تسبب في نفاد سلع أساسية تحتاجها العائلات، في وقت يرفض بعض العاملين تسليم مفاتيح المستودعات لإدارة المؤسسة، للعمل قدر المستطاع على تأمين بعض هذه السلع، لاسيما السكر والأرز والحبوب، عدا عن التلف الذي تعرضت له سلع أخرى ذات مدد الصلاحية القصيرة، من ألبان وأجبان وغيرها.
لا ضير من الاعتصام، فهو حق مشروع. لكن مسلك المعتصمين يكشف تغيرا كبيرا في التركيبة النفسية للفرد، وفهما مغلوطا لكيفية استخدام هذا الحق. إذ كيف يرتضي الشخص تحقيق مصالحه على حساب شرائح هي الأفقر والأضعف، وهي الأولى بالرعاية؟!
حتى يوم أمس، يستمر موظفو صندوق المعونة الوطنية والبريد والمؤسسة الاستهلاكية المدنية في حجب خدمتهم عن فئات مجتمعية هي الأكثر تضررا من اعتصامهم. والشعور بالمسؤولية المجتمعية كان يفرض عليهم القيام بعملهم بدون مساس بحقوق غيرهم، لا أن يطالب البعض بما يرى أنه حق له، في وقت يحرم آخرين من حقوقهم.
سؤال يلزم طرحه على المعتصمين من شركة البريد ووزارة التنمية الاجتماعية: هل تتخيلون أن لا تحصلوا على رواتبكم آخر كل شهر، أم هي وسيلة لليّ ذراع الحكومة في وقت حساس، لمعرفتكم التامة بأن الفئات التي تخدمونها سريعة التأثر بما تفعلون؟
من حقكم الاستمرار في مطالبكم، ولا ضير من فعل ذلك، لكن بدون ابتزاز الفقراء ومتوسطي الدخل، واستعمالهم ورقة ضغط على متخذ القرار، لتسريع الاستجابة لما تطمحون إليه؛ فهؤلاء متعبون أصلا، ويعانون أكثر منكم من الفقر والقهر، فلا تزيدوا معاناتهم وتعبهم بما تقترف أيديكم.
المطالبة بحقوقكم تنتهي عندما يمس ما تفعلون حقوق آخرين. وحريتكم في التعبير عن تطلعاتكم، تصبح لاإنسانية وغير مشروعة، عندما تستقوون على الضعفاء والفقراء وتبتزونهم.
رمضان كريم.. وكل عام والجميع بخير.
الغد