في الفقيد الغالي المرحوم مرضي القطامين

قال تعالى: (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي) صدق الله العظيم

كم كان رحيلك لائقًا بك وبنهجك الذي انتهجت يا أبا نضال وأبا النضال....فقد شهد عزاءك جميع الأحبة الأوفياء، يحمل كلٌّ منهم في قلبه بعضًا من مسيرتك، وفي ضميره بعضًا من جمال سريرتك، وفي ذاكرته بعضًا من مواقف الرجولة التي كنت رمزًا لها...جاؤوا من كلّ حدبٍ وصوب لا ليشيعوا جسدك ويبكوا غيابك فحسب، وإنما ليعلنوها جليّةً أن المبادئ التي آمنت بها وعشت بها بين ظهراني هذا الوطن، إنما هي تلك التي تُخلَّد وتُحتَرم والتي هي جديرة بأن تؤتى. جاؤوا ليعبروا عن وفائهم واعتزازهم بالقيم النبيلة التي حملتها وحملتك، وكافحت من أجلها وعشت لها وبها.

كيف غافلتنا جميعاً ورحلت...ولم نستطع أن نقرأ بين سطور أيامك الأخيرة رغبتك الخفية في أن ترحل وتطوي صفحات هذا العمر وهذه المسيرة الغنية بالعطاء وأنت ممتطٍ صهوة جوادك بكامل إدراكك وبهائك وهيبتك؟! وهكذا انتقلت إلى الرفيق الأعلى كأنك واثقٌ في أنك عما قريبٍ ملاقيه. حثثت الخطى نحو موتك بتؤدة وشجاعة وطمأنينة، ملبيًا نداء ربك الذي أمهلك لتنهي مذكراتك قبل يومين من سفرك على الرغم من أنك كنت قد بدأت كتابتها قبل عشر سنوات من الزمن، وقلت لنا: أنتم من سينشرها، لا أنا.

غافلتنا بهدوئك الذي يخفي خلفه روحًا متقدة تأبى أن تهرم. وعندما كان يدور الحديث عن إمكانيات الشفاء والنصائح التي يلقيها هذا وذاك عن طول العمر وأسرار البقاء، كانت الابتسامة ترتسم على محيّاك الجميل، بينما تنشغل يداك بتجهيز غليونك، ثم تسحب منه نفسًا عميقًا؛ لتنفث دخانه وأنت تردّد قول زهير بن أبي سلمى:

سئمت تكاليف الحيـاة ومن يعش ثمـانين حـولًا لا أبـا لــك يسـأم
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب تمتـه ومن تخطىء يعمّر فيهرم

وهكذا لم تخطئك المنية بل أصابتك قبل أن تهرم، ولم تشأ أيها الفارس النبيل أن يهرم جسدك، وروحك المقاتلة الشابة تتجدد كل يوم وأنت تتابع ما آلت إليه أمتك العربية الواحدة، وما آلت إليه العروبة، وما آلت إليه أخلاق الرجال.

لقد تشربت العروبة حتى أصبحت لها منبعًا؛ فبينما أنت في طوارئ المستشفى، والأطباء والممرضون يحيطون بك من كل جانب، إذ بك تنزع قناع الأوكسجين الذي يمدّك بأسباب الحياة؛ لتسأل ذلك الطبيب المصري عن... مصر...تلك التي تسري في عروقك منذ وصلت للدراسة فيها عام 1950.

لقد كنت حائرا أيها الوطني العروبي وأنت تراقب المشهد الذي يؤذِن بمزيدٍ من التشرذم والتفتت لأمتك التي كنت تصر على أنها "لن تموت". لقد متّ أنت قبل أن تموت أمتك، وهي...لن تموت. ولكن الحيرة التي باتت تتملكك جعلتك تلوذ إلى صمت المراقب الوجل على مصير أمته؛ فتعب قلبك الكبير، وبدأت تفقده شيئًا فشيئًا، إلى أن وصلت كفاءته إلى 20%. وحينها قلت للطبيب: "يكفيني هذا القدر". ومرة أخرى لم ندرك المغزى..وغافلتنا ورحلت.

أيها الحاضر في ضمائرنا جميعا...هل تعلم أن حضورك الآن أقوى...وأن قيمك النبيلة الآن هي التي نحتكم إليها في كل موقف نواجهه؟ هل تعلم أنك لم تمت كلك؟ فبينما وارينا في الثرى ذلك الجسد، سكنتْ في وجداننا وضمائرنا تلك الروح النقية الطاهرة التي لن تكون إلا نبراسًا ونورًا وظلًا نستظلّ به.

وعلى الرغم من هذا كلّه فإننا نفتقدك... وبغيابك عرفنا معنى الفقدان وأساه وقسوته. نفتقد دفئك، وحضورك المهيب، ونظراتك الحانية الثاقبة المطمئنة. نفتقد حكمتك، وأبوّتك، وبِرّك بكل من هم حولك. نفتقد روتينك الرائع وطقوسك الجميلة. إننا نفتقدك يا أبا نضال.

غافلتنا ورحلت يا شمسًا ساطعة. يا رجلاً بقبيلة. يا عمودًا يتوسط خيمة الفضيلة وإصلاح ذات البين. غافلتنا في ليلةٍ من ليالي العمر الحزينة، في لحظة لاذت بين ثنايا الأمل في شفائك وبقائك، وأصبحت تاريخًا لنا لا يتساوى قبله مع ما بعده. رحلت أيها العظيم وتركت في القلب لوعة، وفي العين دمعة، وفي النفس غصّة. وافاك الأجل أيها الراحل الكبير، ولكنك تركت خلفك إرثًا عظيما من حسن الخلق والانتماء سيُتعب من هم بعدك حتمًا. رحلت أيها الأب الحاني، وإنّا على فراقك لمحزونون. ولكننا لا نقول إلا ما يرضي الله تعالى، ولله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده له أجل مسمى.

إننا أبناء مرضي القطامين والوالدة العزيزة وعشيرة القطامين خاصة وقبيلة بني حميدة عامة و أبناء محافظة الطفيلة وأصدقاء مرضي القطامين ومحبيه كافة، نتقدم بالشكر الصادق العميق لكل من واسانا في مصابنا الجلل، ونسأل الله العليّ القدير أن يتغمد فقيد الأمة بواسع رحمته، وأن يسكنه فسيح جناته، وأن يلهمنا الصبر والسلوان، ويساعدنا على أن نسير في درب الخير وإصلاح ذات البين الذي سار فيه. ولكم منا ولكل أبناء الأردن الكرام خالص التقدير والعرفان. وإنا لله وإنا إليه راجعون.