ما من بلد في العالم نال من أناشيد العشق والغزل بمائه وترابه ورمله كما نالت مصر عبر العصور من شعرائها، وخطبائها السياسيين، لكن كل هذا الكلام هو الآن على المحك، فلا يكفي لانسان أن يعلن حبه لشيء ما لأن ذلك ميسوراً للجميع وليس ذا تكلفة تذكر، سواء كان هذا المحبوب وطناً أو شخصاً أو رمزاً، فمن يحب بلاده أكثر من حزبه أو قبيلته عليه أن يثبت ذلك، فالاختبار عسير وما من مجال للغش فيه.
وما تدفعه مصر الآن من أثمان هو بسبب نزعة الاستئثار والاحتكار في المجالين الايديولوجي والسياسي، ولا ندري كيف وبأي حاسوب غبي توصلت بعض الأطراف الى أنها يمكن ان تنتصر بعد خراب القاهرة وليس البصرة هذه المرة كما يقول المثل العربي، فالسلطة تصبح بلا قيمة أو جدوى اذا كانت في فراغ أو بعد تحول البلاد الى أطلال والعباد الى مشردين في عقر وطنهم، لكن النرجسية السياسية التي لم تهذبها أو تدجنها تربية وطنية سليمة هي ما يشحذ ويشحن الأطراف كي يأكلوا بعضهم أولاً، ثم يأكلون أنفسهم بعد ذلك.
ورغم أنه ما من فرصة أخيرة لحزب أو مشروع الا ان هناك أطرافاً ترتهن لهذا الشرط، وترى بأنها اذا فقدت فرصتها لن تستعيدها الى الأبد.
هذا المنطق الأخرق غالباً ما اقترن بأطراف سياسية تعيش داخل الشرانق وتنكفىء على ذاتها وكأنها مبتدأ الجملة الرطبة وخبرها، والآخرون مجرد كومبارس أو جوقة عليها أن تردد الصدى، والنتائج التي تسفر عنها شبه الديمقراطية هي أسوأ من تلك التي تفرزها الديكتاتوريات، لأنها تقدم اشباعاً كاذباً لجوع مزمن.
ومصر التي تعاني هذه الحزمة من الأزمات التي شملت حتى الماء ليس لديها من فائض الرفاهية ما يبرر نزاعاً من أجل السلطة فقط، وحين تعلن قواتها المسلحة أنها طرف أصيل في المعادلة الوطنية فمعنى ذلك أنه لا بد من وضع حدّ وبشكل فوري لهذا النزاع، وقد يرى البعض في هذا الاعلان مناسبة أخرى للحديث عن عسكرة الدولة، والعودة مجدداً الى المراوحة البائسة بين العسكرة والتديين، لكن تدخل الجيش في ظروف استثنائية كهذه قد يكون شراً لا بد منه، لأن ترك الحبل على الغارب لا بد أن ينتهي الى كارثة من أول ضحاياها السّلم الأهلي.
واذا استمرت الدوافع السياسية والايديولوجية تمارس نفوذها على مجمل الحراك السياسي فان ما تكرر بعد ثلاثين شهراً من يناير 2011 سوف يتكرر بعد ذلك مراراً، أما المتوالية المتوقعة لهذا فهي ثورات ثم ثورات مضادة لاستعادة الثورة المختطفة، ولن تكون هناك نهاية لهذه الدراما التي تبث قبيل رمضان باللحم الحيّ، وقد تكون البديل لكل ما أعدّ من مسلسلات!
"الدستور"