من التحرير إلى التقسيم .. !
أ.د عمر الحضرمي
29-06-2013 03:44 AM
بالرغم من كل الاحتمالات، وبالرغم من كل التوقعات، فإن التطورات التي شهدتها تركيا في الأيام الأخيرة، لم تكن في الحسبان، على الأقل في المدى المنظور. وأكثر ما كان متوقعا أن ترتبك الساحة السياسية التركية فقط، مع قيام مناكفات لا تتجاوز حد الصراعات الفكرية، وحد الاختلاف بين وجهات النظر، ولكن أن يغتنم كثير من الأتراك أول مناسبة تلوح في الأفق للتعبير عن رفضهم لسياسات حكومتهم، فهذا الأمر الذي لم يكن قريبا من الافتراض.
وقد ساق المراقبون ذلك، عندما لم يتحرك الشارع التركي استجابة لأحداث جسام هي، بالفعل، أكبر من مشروع اقتلاع عدد من الأشجار من ساحة غازي، وزرع قلعة عثمانية مكانها، أو حتى بناء مجمع استهلاكي ومراكز تجارية، ومن قِبَلِ ذلك تلك الإهانة المتعمدة التي تعرّض لها سفير تركيا من قِبَل نائب وزير خارجية إسرائيل. ثم جاءت حادثة سفينة مرمرة، التي كانت بعض التوقعات تقول إن الحكومة التركية، والجيش التركي، والشعب التركي لن يسكتوا، إلا أن شيئا ذا قيمة لم يحدث. فمرت الإهانة ومرت الحادثة ومر غيرها الكثير ولم يتحرك الشارع التركي، ولم ينتفض. إذن فما الذي حدث؟
الذي حدث حسب ما طرحته المعطيات أن هناك صراعا حادا، كان خفيا وصار جليا، نشب بين مكونات الطبقة الوسطى في المجتمع التركي؛ منها القديمة التي تحالفت مع العسكر ومع الحكومات التي جاءت قبل عام 2002، أي قبل فوز حزب العدالة والتنمية بالحكم، ومنها الحديثة وهي التي مثلت المصالح الإسلامية وتوجهاتها خاصة داخل الجسم الاقتصادي التركي.
ولقد لوحظ أن الشق الجديد من الطبقة الوسطى قد اعتمد على رجال الأعمال وأصحاب المصانع الذين لهم اتصالات مع كثير من المواطنين، والذين موّلوا حملات حزب العدالة والتنمية، إلى درجة الإفساد. إذ قالت بعض التقارير، إن هناك حجما كبيرا من الفساد الحزبي والشخصي، وأضافت أن أردوغان نفسه، ومنذ أن كان عمدة اسطنبول، قد واجه ثلاث عشرة قضية فساد رُفعت عليه في المحاكم، إلا أنه استطاع أن يستخدم واقي الحصانة البرلمانية في مواجهتها.
ولم تخف التحليلات السياسية شكوكها في أن المؤسسة الاقتصادية العالمية، وخاصة الغربية، قد شاركت في تحسين الأداء الاقتصادي التركي في ظل حكم حزب العدالة والتنمية، وذلك في سياق حملات الغرب الدبلوماسية لتشجيع وصول الإسلاميين إلى الحكم في المنطقة.
وهناك الكثيرون الذين يرددون أن مظاهر الأداء الرفيع لحكومة أردوغان بدأت تخبو، وأن هناك الكثير من الأخطاء التي ارتكبت والتي أثرت على ارتجاج الأتراك بدءا من إدارة العلاقات مع سوريا، وانتهاء بسوء التقدير الذي أحاط قرار الحكومة بإطلاق اسم السلطان سليم على الجسر الثالث الذي تنوي الحكومة إقامته على مضيق البوسفور. ومن المعلوم أنه في عهد السلطان سليم هذا (قبل أربعة قرون) وقعت مذبحة راح ضحيتها أكثر من أربعين ألف من العلويين، كما يقول الأستاذ جميل مطر.
ويشير المراقبون أيضا إلى أن حكومة أردوغان قد شوهت علاقتها مع الإعلاميين، حتى أصبحت تركيا تتصدر الدول التي تقمع الإعلاميين وتقيد حرياتهم.
لا أظن أنه بقي شيء يمنع من تدفق العدوى في الأواني المستطرقة الممتدة ما بين ميدان التحرير وبين ميدان التقسيم، رغم كل الفروقات في الحجم. وفي المعطيات، وفي التفاصيل، وفي التوقيت، وفي التركيبة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
الرأي