يرتبط الفن في ذهن بعض أتباع الجماعات الدينية بصور العري والفسوق والفجور، إلى آخر مصفوفة طويلة من التعبيرات البدائية التي تنتمي إلى عالم متخيَّل من قصص ألف ليلة وليلة. وبهذا المعنى، يكون مهرجان جرش في عرف قيادي في الحركة الإسلامية، والحركة كلها على الأرجح، هو مجرد عمل يخالف "المروءة والشرف" على حد زعمه.
المؤكد أن الشيخ "العالِم" ومن هم على شاكلته، لم يحضروا في حياتهم مسرحية، ولم يشاهدوا رقصة "فلامنغو"، ولم يسمعوا مقطوعة موسيقية، وبالطبع لم يتأملوا لوحة فنية. ولذلك، لم يكن مستغربا أن لا نجد في صفوفهم فنانا تشكيليا واحدا، أو فرقة مسرحية، غير فرق الأناشيد، و"كاسيتات" الدعاة التي تحوّل حياة السامعين إلى فيلم رعب.
ليس غريبا هذا الهجوم على مهرجان جرش، وعلى الثقافة والفن؛ فعندما أقدمت إحدى الحكومات على إلغائه قبل سنوات، وقفت كل القوى الحية ضد القرار، باعتباره اغتيالا لمنجز حضاري أردني. وقد تمكنت بالفعل من إعادته للحياة. وحدهم "أعداء" الفن والثقافة صمتوا تواطؤا مع قرار الإلغاء.
ولا يكتفي الشيخ والنائب السابق بوصف جمهور المهرجان بأقذع الصفات، بل يحرّض أهالي جرش على الاعتصام والاحتجاج لمنع المهرجان، على غرار ما فعل السلفيون بمهرجان القلعة، ورضخت الحكومة لطلبهم.
أول من أمس، كانت أولى حفلات جرش؛ صدح الفنان كاظم الساهر بأجمل الألحان، وبقصائد عربية رائعة. لم نشاهد على مدرجات "الجنوبي" فاسقين وعراة كما ادعى الشيخ، وإنما رجال ونساء بلباس محتشم، ومثقفون ووزراء وشباب من مختلف الجنسيات العربية.
وعلى المسرح الشمالي "باليه شهرزاد"، وهي فرقة أردنية؛ أن يكون عندنا فرقة باليه هو أمر يبعث على الفخر. وفي شارع الأعمدة، معارض للفن التشكيلي والحرف اليدوية والصناعات التقليدية. وعلى مسرح "أرتيمس"، شِعر وندوات ثقافية ومحاضرات، وعروض لفرق فنية شعبية وفلكلورية.
الفنانون والمثقفون العرب الذين ضاقت بهم أنظمة الحكم في بلادهم، وجدوا في "جرش" ملجأ للتعبير عن فنهم؛ حضروا من تونس ومصر والمغرب ولبنان وسورية وفلسطين.
كل معاني الحياة التي يجسدها الفن تحضر في مهرجان جرش، فلماذا تقفون في صف أعداء الحياة؟!
ساحات مصر ولبنان لا مكان فيها للحياة والفرح؛ تحولت إلى ميادين للحشد والمواجهة. ومهرجان دمشق التاريخي صار مسرحا مخضبا بالدماء اليوم. هل تريدون "أرتيمس" مثله، أم على شاكلة صيدا؛ زعران الأسير أم فرقة العاشقين، اختاروا؟
وحده مهرجان جرش الذي يستطيع في هذه الأوقات السوداء التي تمر فيها منطقتنا العربية أن يجمع عربا من مختلف المذاهب والطوائف. هنا في جرش تجد السني والشيعي والدرزي، المسلم والمسيحي، معا على مدرج واحد، يغنون للحياة. بينما هناك في دول الجوار ومن حولنا، يتحصنون في الخنادق، ويغرقون في لعبة الموت بفضل فتاوى الشيوخ وأصحاب السماحة والسيادة.
استمتعوا بصوت كارول سماحة ونجوى كرم ونانسي عجرم وأيمن تيسير، وأداء فرق الرواد وابن العربي و"لمبة جاز" و"بساطة"، وبالليالي الأردنية الأصيلة. لا تلتفتوا لتلك الأصوات النشاز التي تريد مصادرة حقنا في الحياة، وأن تحرمنا أجمل ما أبدع الإنسان.
fahed.khitan@alghad.jo
الغد