من الواضح أن الجمهور ليس مقتنعا بأن هناك تقشفا حكوميا فعليا، وبأن الامتيازات تتقلص إلى أدنى حد، والإنفاق يذهب بمنتهى الحرص إلى ما هو ضروري، كما بأن المداخيل عادلة في القطاعين العام والخاص. فوق ذلك، هناك قناعة بأن ما نهبه الفساد لو عاد، فيكفي لتغطية المديونية وعجز الموازنة.
بهذه القناعات، لا يرى الشعب سببا ليتحمل من جيبه كلفة عجز الموازنة، حتى لو حلف د. عبدالله النسور أغلظ الأيمان بأن العجز يأتي من تغطية الحكومة لكلفة استهلاك المواطن من الكهرباء، وهي تقارب ضعف قيمة الفاتورة التي يدفعها. أكثر من ذلك، يشعر كل شخص أنه مغبون في دخله. وقد أصبح أبناء كل قطاع مستعدين للاعتصام والإضراب عن العمل، مهما كلف ذلك من خسائر باهظة. وكل واحد عينه على من يأخذ أكثر منه. ولن نجد في الحياة العملية أفرادا أو قطاعات تضرب المثل بالإيثار؛ فيقول قائلهم: نظرا لظروف الوطن، لا أشكو ولا أطلب، بل أتنازل! هذا المواطن المثالي ليس موجودا. والحكومة وحدها، كسلطة ذات ولاية، يمكن أن تضرب المثل والقدوة؛ أولا بنفسها، ثم بجميع الفئات، بما في ذلك القطاع الخاص!
في مداخلتي في نقاش الموازنة العامة، قلت إن الحل يكمن في عبارتين، هما: 1 - القضاء على الفساد، 2 - زيادة الإنتاجية. لكن هذا ليس الحل الفوري. فالقضاء على الفساد ورفع الانتاجية هما مشروع استراتيجي تراكمي، يفترضان وجود خطط تغيِّر ثقافة وسلوك المواطن، طوعا أو كرها، لتصبح 8 ساعات دوام تعني 8 ساعات عمل وإنتاج حقيقي، أكان وراء مكتب أم في الميدان. ونحن نظهر كمنتجين جيدين في الخارج فقط، حيث تغطي على عجزنا تحويلات الأردنيين من الخارج، التي تمد السوق بأكثر من ملياري دينار سنويا، إلى جانب ما تغطيه المساعدات.
وإذا تحدثنا بالحلول الفورية، فالتقشف هو الحل الوحيد لخفض النفقات وتقليل العجز. والتقشف على مستوى الجمهور يتحقق طبيعيا بالتضخم والارتفاعات القادمة للأسعار؛ إذ سيضطر المواطن لخفض استهلاكه، فيشتري كمية أقل بنفس السعر. ويمكن تحسين إدارة المواطن لدخله وترشيد إنفاقه ليتحدث مثلا ساعات أقل على الخلوي، ويوفر خضراوات أكثر للبيت.
لكن، ما يريد أن يراه المواطن أو يلمسه بالأصابع العشر، هو تقشف السلطة وفئة الأثرياء. وهنا أقول إن الحكومة فشلت حتى الآن في تقديم إجراءات قوية مقنعة للمواطن، قد تكون ذات أثر "معنوي" مهم. ومن ذلك، مثلا، أن تعلن الحكومة سقفا للرواتب والعقود، متضمنا كافة الامتيازات والمكافآت والبدلات من أي نوع، بمبلغ لا يزيد على 5 آلاف دينار؛ وأن تفرض ضريبة مؤقتة 50 % على كل مبلغ يتجاوز 5 آلاف دينار من الرواتب في القطاع الخاص، بدون اعتبار لأي خصومات ونفقات (ويمكن وضع قانون خاص لها على جناح السرعة للتطبيق الفوري).
طبعا، ستثور ضجّة كاسحة في هذه الأوساط، لكنها أكثر احتمالا من سخط شعبي عام لا نعرف مداه، والأثر الأعمق والمردود الأضخم هو توسيع ضريبة الدخل. والخطوة الشجاعة الأخرى لو قررت الحكومة فرض ضريبة على الأرباح الرأسمالية (أرباح الأسهم والسندات وبيع العقارات.. إلخ)، وعلى الأملاك المنقولة وغير المنقولة فوق سقف معين. وهنا سنسمع "ولولة" على خراب الاستثمار وتقويض السوق المالي، وهذا ليس صحيحا؛ فالضريبة موجودة في أمهات النظام الرأسمالي، ولن تؤدي إلى انهيار شيء.
jamil.nimri@alghad.jo
الغد