الخطوة القطرية المتمثلة بتنازل الأمير حمد إلى أحد أنجاله بتولي مقاليد الحكم، عبر اتفاق طوعي سلس، تعد خطوة غريبة وغير معهودة على صعيد الزعماء العرب، وخارج دائرة تقاليد أنظمة الحكم العربية سواء كانت ملكيّة وراثية، أو جمهورية عسكرية، إذ لم يسجل التاريخ أن زعيمًا عربيًا تخلى عن كرسي الحكم وهو على قيد الحياة بملء إرادته، وعبر خطوات سلمية هادئة ،إلا في حالات نادرة جدا ومعدودة.
الرئيس "سوار الذهب" السوداني، هو الحالة العربية الوحيدة المقدرة، التي سجلت سابقة تاريخية في تسليم مقاليد الحكم بطريقة سلمية طوعية، عبر انتخابات عامة، وما قام به سوار الذهب يمثل خطوة متقدمة تستحق الإشادة، لأنه لم يقم بتسليم الحكم إلى أحد أبنائه أو أفراد عائلته، أو أحد أصدقائه المقربين من شلته الحزبية المنتفعة، بل عمد إلى إجراء انتخابات عامة، أسفرت عن فوز الحزب الحاكم آنذاك.
باستثناء هذه الحالة كان التنازل عن الحكم يتم عبر انقلابات عسكرية دموية، أو عبر اغتيال الحاكم ،أو موته بعد عمر طويل بفعل الهرم أو المرض، وأحيانا عبر انقلابات بيضاء من الإبن على أبيه أو الأخ على أخيه، من خلال مؤامرات كيدية ناجحة.
تأتي هذه الخطوة القطرية لتسجل حالة مقبولة على الصعيد العربي الخليجي تحديدا، تحمل آثارا إيجابية ،في تجديد شباب الحكم، وإعادة إنتاج الإمارة ،في ظل حكم وراثي ،يتسم بقدر من الاستقرار، وليس من الموضوعية تضخيم هذه الخطوة والتهويل من شأنها وأثارها واعتبارها تحولاً ديمقراطيا كبيرا، وفي الوقت نفسه لا يجوز التهوين من قدرها إلى حد العدم، أو الذهاب بعيدا في التحليل ؛أنها ليست سوى استجابة لأوامر أمريكية صارمة ،بتسليم الحكم لغايات سياسية ،تقتضيها مخططات عالمية للمنطقة، تقتضي إعادة توزيع الأدوار وتغيير الوجوه، فهذا من باب المبالغة التي لا تستند إلى دليل.
قطر استطاعت على صغر حجمها، وقلة عدد سكانها ،في المرحلة السابقة أن تلعب دورا سياسيا كبيرا ومؤثرا على المستوى الإقليمي، امتاز بالحيويّة والذكاء، يختلف معه الناس ويتفقون في مساحات متقاطعة، واستطاعت أن تقوم بدور مؤثر في مختلف الملفات العربية الساخنة، ضمن فهم دقيق للمعادلات الدولية والعالمية، كما استطاعت أن تلعب على حبل المتناقضات أحيانا بطريقة تدعو إلى الحيرة والعجب، فقد كانت السياسة القطرية تميل إلى الاعتراف بالواقع "الإسرائيلي" بطريقة معلنة، وفي الوقت نفسه أقامت علاقات وثيقة مع "حماس"، وكان لها عدة محاولات من اجل حل الإشكالات بين قيادة حماس وبعض الأنظمة العربية الحاكمة.
استطاعت قطر أن تشكل تحالفا مع النظام السوري، وأنظمة عربية أخرى أثناء الاعتداء الصهيوني على غزة ،في مقابل حلف عربي آخر أكثر تقاربا مع الكيان الصهيوني، كان يسعى لتعطيل عقد القمة العربية، وعرقلة النصاب ،وكان الموقف القطري محل ترحيب وثناء عربي واسع في ذلك الوقت ، تعرض للتراجع في ظل وقوفها مع ثورات الشعوب العربية عموما، خاصة موقفها الصارخ ضد نظام بشار الأسد، الذي أدى إلى هجوم واسع النطاق من قبل مؤيدي النظام السوري، والاتجاهات البعثية والقومية على وجه الخصوص، وصل إلى حد الشتم والتخوين!!
بذلت قطر جهودا كبيرة في محاولة لتحقيق المصالحة السودانية، وجمع الأطراف المختلفة في الدوحة، وتم الخروج ببعض الاتفاقات التي لم تصمد طويلاً، وكذلك حاولت حلحلة الملف الصومالي من خلال جمع الأطراف المتصارعة لوضع حد للنزاع الدموي الداخلي الذي أودى بالصومال وشعبها واستقرارها، كما قامت قطر بمحاولة مصالحة بين حماس وفتح، وما زالت تقود محاولات إيجابية على هذه الأصعدة.
في مقابل ذلك كانت قطر سباقة في مجال التطبيع مع الكيان الصهيوني وقامت بخطوات فعلية في هذا السياق، إذ فتحت مكتبا تجاريا "اسرائيليا" في الدوحة، وهي تقوم بذلك بطريقة علنية واضحة، وتعدُّ ذلك من باب العمل السياسي البراغماتي، الذي يساعدها على القيام بدورها السياسي الفاعل على مستوى الإقليم، وهو بالتأكيد محل انتقاد كثير من الكتاب العرب والمسلمين، وفي السياق نفسه يجب التنبيه أن كل الدول العربية بلا استثناء في مقام الاعتراف الفعلي بـ"اسرائيل" في حدود عام 1967م، الذي تقول به قطر، وهذا الموقف لا تشذ عنه سورية الممانعة، ولا إيران الإسلامية، وتُجرى الخلافات في بعض تفصيلات الموقف، خارج دائرة الاعتراف الحقيقي والفعلي بوجود دولة "اسرائيل" وحقها في الحياة والأمن، على أرض فلسطين التاريخية!!
الخطوة القطرية الجديدة لا يتوقع أن تمثل نقطة تحول في الخط السياسي القطري تجاه مختلف القضايا الإقليمية، حتى لو تغيرت الوجوه الرئيسية الفاعلة في المرحلة السابقة، ومن المتوقع أن تستمر قطر في مسارها البراغماتي المعتمد، الذي يحاول إنشاء علاقة سياسية ناجحة مع الأطراف المتناقضة، التي تؤهلها لأن تلعب أدوارا مؤثرة وفاعلة لا يستطيعها الآخرون، ويمكن القول أن التجربة القطرية تجربة غنية، لها وعليها بكل تأكيد، فلها أخطاؤها ولا إيجابياتها، وما أود تكراره بوضوح أنه ليس هناك دولة عربية واحدة تخرج عن سياق الاعتراف بالإحتلال "الإسرائيلي" لأرض فلسطين ضمن القرار الدولي (242)، الذي تم التعبير عنه في المبادرة العربية التي كانت محل إجماع. ومن هنا يجب نفي البطولة عن أية دولة عربية في هذا المجال، وإبداء القليل من التواضع والموضوعية في التفريق بين مواقف الدول العربية وعدم الذهاب بعيدا في مجال الشيطنة من جانب، وفي مجال البطولة الموهومة من جانب آخر.
a.gharaybeh@alarabalyawm.net
العرب اليوم