أعجبني وصف أحد القراء للمتهربين من الضريبة بـ"المتنمرين" الذين يستقوون على الدولة لضعفها، أو ربما لشعورهم بأنهم فوق القانون الذي لا يطبق على الجميع بدون تمييز.
المشكلة بدأت منذ عقود، عندما قدمت الدولة امتيازات واستثناءات لأصحاب النفوذ و"الدولة" و"المعالي"، حتى وجدتَ بعضهم يرفض تسديد حقوق الدولة من فواتير مياه وكهرباء وضرائب، ويحصل على امتيازات تشعر الغير بأفضليته.
بعض كبار المسؤولين مارسوا استقواءً على الدولة؛ إذ ظنوا أنهم أقوى منها، أو أنهم يتمتعون بمواصفات حباهم الله بها، تعطيهم الحق في التميز، عبر التنصل من الواجبات!
الظاهرة كانت محصورة، لكنها لعبت دورا كبيرا في تشكيل نظرة انطباعية لدى المجتمع، بأن كل مسؤول يحق له ما لا يحق لغيره.
الدولة بدورها كانت تستثمر ما تقدمه "كعربون محبة" للمسؤول، في تطبيق وتمرير سياساتها حسبما تريد، وبدون أن تكلف نفسها عناء تلمس تطلعات المواطنين وطموحاتهم بالتخلص من تلك الممارسات.
ما بعد "الربيع"، نضجت حالة من الوعي الشعبي، تطالب بضرورة تطبيق القانون على الجميع بعدالة ومساواة، ووقف جميع أشكال التمييز، بعد إدراك المتضررين أن هذه السياسة تأتي على حساب مصالحهم، وكان التوقع أن نشهد تعاملا إيجابيا بهذا الخصوص، يساعد على تكريس دولة القانون والمؤسسات.
لكن يبدو أن ما حدث من حراك واحتجاجات قد أربك المؤسسات لدرجة الخوف أحيانا، فجعلها تتعامل مع المطالب بنهج خاطئ، أدى إلى إضعاف الدولة في عيون الناس، بعد أن فقدت الهيبة نتيجة التراخي في تطبيق القانون؛ فصارت تعاني من وهن يعرضها لما يمكن وصفه بـ"التنمر".
الحاصل أن الشعور الشعبي المتنامي بالظلم وغياب العدالة، تزامن مع فشل السياسات الحكومية في التخفيف من مُشْكلتي الفقر والبطالة، فكان أن جلب نتائج أكثر خطورة، بازدياد الرفض الشعبي لتطبيق القانون. وصرنا نشهد يوميا مسلكيات تعكس هذا الشعور، بزيادة "التنمر" من المجتمع على مختلف المؤسسات!
بالنتيجة، ظلت الدولة ساكتة عن تجاوزات المسؤولين ولم تعالجها، وحمل "الربيع" فكرا جديدا رسّخ في عقول الناس الاعتقاد بأن الحل سهل، ويكمن في "التنمر" على الحكومة والمؤسسات التي تبدو في أضعف حالاتها، وهي تقتل بما تفعل فكرة دولة القانون والمؤسسات.
في التنمر والاستقواء، وجد الفرد ضالته للحصول على ما يريد، ما جعل الوضع أقرب إلى الفوضى، وكشف ضعف الدولة وتراخيها في تطبيق القانون.
أشكال وأساليب التنمر تختلف، وأبرزها الاعتداء على المؤسسات. فما معنى أن يتعرض مركز أمني للهجوم على مدى أيام متتالية؟ وماذا يعكس تكسير الممتلكات العامة؟ وما دلالة استسهال استخدام السلاح في حل الخلافات والمشاكل، بدلا من اللجوء إلى القانون والمؤسسات التي تنفذه؟
تأخُّر استيعاب التغيير الذي أصاب المجتمعات، وبالتالي ضرورة تغيير ماهية العلاقة التي تربط الدولة، بمؤسساتها كافة، بالمجتمع، زادا من رغبة الأخير في التطاول على المؤسسات، بحجة غياب العدل، ما أدى إلى تفاقم المشكلة.
نتيجة ذلك، اتسع حجم كثير من الظواهر في العامين الأخيرين؛ بدءا من سرقة المياه والكهرباء، وليس انتهاء بالاعتداء على قدسية امتحان "التوجيهي"، وإصرار شريحة واسعة على تهربها من تسديد الضرائب، وغيرها الكثير، بدون أدنى اعتبار للقانون والخشية من المؤسسات.
وقف ظاهرة التنمر، يرتكز على استعادة هيبة الدولة وقوتها. الأمر الذي يتطلب تطبيق القانون بعدالة، ووقف كل أشكال المعاملات التفضيلية التي يحصل عليها المتنفذون، والرد على كل الأسئلة التي لا تجد إجابات لدى الناس وتخرجهم عن أطوارهم.
الأردن الحديث بُني وفق معادلة واضحة، انقلب عليها المسؤولون؛ ما أشاع هذه الظاهرة التي تقتل منجزات الماضي، وتضعنا في مصاف دول ما تزال في طور التأسيس. فما الذي حدث؟!
فقدان الإيمان بقدرات الدولة، وظهورها كطرف ضعيف، أفرز هذه الظاهرة، التي يحتاج القضاء عليها إلى إعادة الأمور إلى نصابها قبل أن يتدهور الحال لمستويات أكثر خطورة لا يمكن السيطرة عليها.
الغد