لم يعد بالإمكان أن نستمر على هذا النحو؛ لقد نجحنا في تجاوز الصدام الداخلي والفوضى، لكن "نموذجنا" الإصلاحي ليس قادرا، كما يبدو، على وقف التدهور الحاصل في البلاد. سنتان من الإصلاحات "الجوهرية" لم تفلح في استعادة الحد الأدنى من سلطة القانون. المجتمع يسير في اتجاه مغاير تماما لخطاب الإصلاح؛ المجتمع ببساطة يحتضر، يتفكك، ويتجه أكثر فأكثر إلى الانفلات.
تطورات أسبوع واحد "تسم البدن"! قاعات التوجيهي ساحات مواجهة، والغش يتحول إلى سلوك شعبي مقبول ومطلوب. نكتفي بكيل الشتائم لوزارة التربية على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا نسأل أنفسنا عما تقترفه أيدينا من تجاوزات لقواعد الامتحان. العنف يعود إلى الجامعات؛ طلبة "مؤتة" الذين عانوا من ويلات العنف، يعيدون الكرة من جديد، وكأنهم لم يفقدوا قبل أشهر قليلة زميلا لهم.
منذ سنوات، والحكومات المتعاقبة تحلف أغلظ الأيمان بأنها ستضرب بيد من حديد على سارقي المياه. ثم نكتشف أن كمية المياه المسروقة في السنة الواحدة تعادل استهلاك مدينة.
لم تعد مؤسسة محصنة من التجاوزات؛ للمرة الأولى يعتصم ضباط برتب عالية، احتجاجا على قرار إحالتهم على التقاعد. منذ متى يحتج العسكر؟!
حملة فرض القانون التي تنفذها قوات الأمن منذ أسابيع، طالت مئات المطلوبين، لكنها لم تغير في سلوك الناس وموقفهم من القانون. الأمن يطبق القانون، لكنه لا يعالج الاختلالات العميقة في البنية الاجتماعية. الهيبة لا تُسترد بالقوة.
المجتمع يحتضر، وينساق لغرائزه؛ تسيره الفتاوى لا القانون، والعهود القبلية لا دولة المؤسسات. بينه وبين الدولة هوة واسعة؛ عند الأغلبية الدولة وحكوماتها وبرلمانها أعداء، مجرد جباة.
الاعتقاد السائد لدى نخب الحكم كان وما يزال بأن الأردنيين يتعظون مما يحصل عند جارهم الشمالي، ولن يغامروا باستقرارهم وأمنهم من أجل إصلاحات أكثر. من الناحية السياسية، يبدو الأمر صحيحا. فالناس لا تغريهم اعتصامات ومظاهرات الأحزاب كما كان الحال في أشهر "الربيع" الأولى؛ جل اهتمامهم يتركز على الوضع الاقتصادي، وقرارات رفع الأسعار، وصعوبات المعيشة. لكن ما يحدث في المجتمع من تهالك وتحلل وتحد يومي لسلطة القانون وقيمه، أخطر بكثير من الثورة وعنف الثورات. المجتمع يأكل بعضه؛ لم يعد لديه جهاز مناعة، صار مستعدا لقبول مختلف أشكال التجاوز.
والدولة إزاء ذلك كله مستسلمة، لا بل خاضعة لقوى اجتماعية وجماعات دينية متطرفة، تصوغ ثقافة الناس وقيمهم كيفما شاءت. تعترض فئة صغيرة على مهرجان فني في جبل القلعة، فتخضع الحكومة لإرادتها؛ تُحرق مؤسسات رسمية وتزهق أرواح بريئة، فنلجأ لسلطة العشيرة لتسوية المشكلة؛ يقتحم العشرات كل يوم قاعات التوجيهي، ولا نسمع عن محاكمات. وهكذا، يصبح التجاوز على القانون، والخضوع لسلطة الجماعات وخطابها، سياقا عاما في المجتمع.
استبشر الكثيرون خيرا بتصريحات رسمية توحي بصحوة حكومية لاستعادة الهيبة وفرض سلطة القانون على الجميع، وإذ بالأمر لا يتعدى حملات أمنية للقبض على مطلوبين، من المفترض أن يكونوا في السجون من قبل. المسألة تتعدى ذلك بكثير، وتحتاج إلى مشروع وطني أكثر عمقا وشمولا؛ في السياسة والثقافة، في المدرسة والجامعة والبرلمان والحكومة والوزارات والدوائر الحكومية؛ وفي الشوارع وعند الإشارات الضوئية؛ في كل مكان، حيث ينتشر الخراب.
fahed.khitan@alghad.jo
الغد