في ماليزيا وسنغافورة وتركيا، وكل الدول التي سجلت نجاحا اقتصاديا في العقدين الماضيين أسهم في تغيير حياة الناس هناك، كان الحسم سريعا باتجاه تغيير المؤسسات والتشريعات والعقلية التي يتحرك بها الاقتصاد، دونما إبطاء أو تلكؤ؛ فكانت الرؤية حاضرة، ومثلها الأهداف التي على رأسها تحسين مستوى معيشة الفرد، ومساعدته على تطوير أدوات التنمية من حوله.
لكن، ما هي الحالة بالنسبة لنا؟درجت الحكومات على رفع أسعار المحروقات في السابق. أما اليوم، فإن الشكل تغير وبقي المضمون ذاته، تحت اسم رفع أسعار الكهرباء. وفي نهاية الأمر، فإن المستهلك البسيط ذا القدرات المالية المتواضعة، هو من يدفع ثمن السياسات الحكومية الخاطئة، وغياب الإصلاح أو تعطيله لصالح طبقة لا يمكن المساس بها. وبالفعل، فإن هذا ما حدث ويحدث في الأردن منذ بدأت مرحلة الخصخصة؛ فالحديث ينطوي على إلغاء الدعم، وتسريح العاملين، ورفع أسعار المشتقات النفطية والكهرباء والمياه، بينما لم يقترب أحد من "الحيتان" و"القطط السمان"!حتى التشريعات التي تحاول أن تصنع فرقا في الحياة الاقتصادية، أُجّلت غير مرة، وبعضها سيُبدأ العمل به العام المقبل، بعد سنوات طويلة من الانتظار. والسبب هو ضعف المجلس المعني بالتشريع والرقابة. فقانون الضريبة الذي يؤسس لمبدأ التصاعدية، من المفترض أن نكون قد مضينا في طريقه قبل سنوات، حتى يدفع الأغنياء بالقانون حقوق الخزينة، ولا يكون البحث عن سد عجز الخزينة من جيوب الفقراء فقط.ليس لديّ شك في أن تغيير الصورة النمطية التي تعمل بها دائرة الضريبة كفيل بأن يغير في الواقع المالي والاقتصادي.من يذهب إلى أن الأثرياء في الأردن يدفعون الضرائب المستحقة عليهم، لا يعلم حقيقة الأمور، أو يحاول أن يغطي على تلك الفئة التي تنظر إلى الدولة والمجتمع من برج عاجي. فالنسبة الغالبة من هذه الفئة تتم محاباتها من قبل السياسيين، ولديها حصانة، بل حصانات، في التشريعات، ولا أحد يستطيع الحديث عنها إلا مديحا، بما في ذلك كثير من وسائل الإعلام الذي يخاف الاقتراب منها.الصورة أمست واضحة ومقلقة؛ فالمستهلك يدفع ثمن فساد وأخطاء الآخرين؛ حكومات ومؤسسات وفئات نافذة، بينما لم يبدأ الإصلاح الاقتصادي بعد. فالإصلاح يعني وقف الهدر وقطع الطريق على الفاسدين، وتحويل "الحيتان" واللصوص الكبار إلى القضاء لاسترداد الثروات المنهوبة. وكل هذا، للأسف، لم يحدث، وجاءت في موازاته سلسلة من القرارات الحكومية "الجريئة" ضد الفقراء والمستهلكين الذين ذابت قدراتهم الشرائية تحت ضغوط التضخم وموجات الغلاء التي لا تتوقف.المسار السابق وحتى الحالي في التعاطي مع التنمية والاقتصاد ورسم ملامح الحياة للأردنيين لسنوات مقبلة، يجعل الاقتصاد تابعا لهواجس الأمن والسياسة. وأبعد من ذلك أنه مسار يحابي الأثرياء، ويقسو على الفقراء والمحرومين. ويمكن القول بعد عامين من الاحتجاجات في شوارع الأردن ومدنه وقراه، أننا لم نصنع إصلاحا اقتصاديا ولم نغير في الواقع، وأن مسارات الدولة ليست على طريق صحيحة.
الغد