لا زالت طريقة بناء الموازنة تعتمد النموذج المُستعمل منذ الاستقلال والذي تجتهد وزارة المالية بإرساله في الربع الأخير من السنة لكافة الوزارات والمؤسسات طالبة من كل وزارة ومؤسسة وضع خطتها لمجموع المبالغ اللازمة للانفاق خلال العام القادم وكذلك تقدير الايرادات المتوقعة من خلال تقيّمها للخدمات واستيفاء الرسوم والضرائب حيث يقوم المدير المالي في كل وزارة برصد احتياجات الوزارة من نفقات جارية ونفقات رأسمالية لازمة لقيام الوزارة بعملها على الوجه الأكمل كما يُقدر الايرادات التي يتوقع أن تُحققها الوزارة أو المؤسسة للعام القادم وقد اعتاد مُدراء المال في الوزارات على وضع احتياطيات كافية وتزيد لتغطية هامش المفاوضات مع دائرة الموازنة وبما يضمن تغطية بنود الموازنة المطلوبة وضمان مخصصات الرفاهية والفساد .
ومن يحتاج أدلة أكثر فليعود إلى الزيادة السنوية في موازنة الدولة وموازنة المؤسسات المستقلة ليتيقن أن الحكومات المتوالية التي ادّعت ضبط النفقات وإلغاء الغير ضروري منها قد حافظت على مخصصات الفساد والرفاهية في موازناتها فلم تتأثر مكافأت وحوافز الفئات العليا ضمن أية اعتبارات ، واحتفظت كل الجهات بدون استثناء بمزاياها ولم يكن أمام الحكومات سوى جيب المواطن للاحتفاظ بالوضع على ماهو عليه بل وتعزيزه ما أمكن .
وعندما تقرأ مشروع الموازنة ترى أن نفس الغايات والأهداف التي تضعها دولة كالسعودية مثلاً بما فيها من فوائض ومشاريع تنموية تضعها حكوماتنا الرشيدة في مقدمة مشروع القانون وفي كل مرة تقدم بيانات تفيد أن الحكومة قطعت وسطها من شد الحزام وفي الواقع ترى الأثاث والمكاتب والسيارات الفارهة والحشم والخدم والوفود والسفرات وحجوزات الفنادق والمطاعم والطيران ذات الخمس نجوم ولا ترى مسئولاً في الصف الأول والثاني إلا في مقصورة الدرجة الاولى في الطائرة !!! ولا اعتقد أن هناك بلداً في الدنيا من بلاد العالم الثالث يوازي الأردن في عدد الوفود والسفرات وعدد الأعضاء في الوفد الواحد ، ومن هنا يأتي حرص الحكومات على رصد النفقات الجارية والتعامل معها على أنها الموازنة العامة للدولة ، كما وتلاحظ فإن كافة المعايير تُقاس نسبة للنفقات الجارية حيث أنها الأساس في بناء الموازنات , وفي العادة تُركز الحكومات في الدول النامية على النفقات الرأسمالية وتخصص لها سنوياً ما يزيد على 30-35% من موازناتها أما في الأردن فلم تزد يوماً النفقات الرأسمالية عن 18% من الموازنة في
حدّها الأعلى وتجد أن نصفها على الأقل لم يُصرف نهاية العام .
كما أن الحكومات التي تعمل لمصلحة أوطانها وشعوبها تضع الخطط والبرامج والمشاريع اللازمة وتبني الخطط والخطط البديلة لتحقيق الاستغلال الأمثل لما هو مُتاح من موارد خصوصاً وأن جانب مُهم من الموازنة العامة الأردنية يعتمد على المساعدات والتي تبني أصلاً على مدى إرضاء دول الخليج والمُعسكر الغربي عن أداء الدولة فتارةً ما تغدق علينا الأموال والمساعدات العينية العسكرية والمدنية بأشكالها وتارةً ما تجف هذه المساعدات لتؤكد أن هذه المساعدات لم تكن أصلاً لسواد عيون الشعب الأردني ولم تكن إلا لشراء المواقف وتجيير الإرادات لصالح هذا المعسكر أو ذاك ومع ذلك لا زالت سياسات الحكومات تعتمد على الفعل ورد الفعل ، ولا تكلف الحكومات نفسها رغم أن عدد الخبراء والمستشاريين العاملين واشباههم على ايجاد الوسيلة المثلى لصرف أموال المساعدات بعد أن اعتادت على أن هذه المساعدات المجال الأخصب لتمويل عجز الموازنات الذي لو تم ضبطها لتبين أن غالبيتها فساد مالي وإداري تجسد في تفصيل ما يُعرف بالمؤسسات والهيئات المستقلة لأبناء وبنات الذوات ومن لف لفهم ، ولهذا تصر الحكومات الاحتفاظ بها وبما فيها من مخزون العراقة والوجاهة الموروث لإعدادهم لقيادة المرحلة القادمة حفاظاً على العُرف السائد في انتهاج سياسة توريث المناصب .
بذلك نرى أن الحكومات ليست معنية بهذا الجانب من الموازنة أقصد النفقات الرأسمالية بدليل أن ليست هناك حكومة إلا وأبقت نسبة لا تقل عن 30 % 50% منها على الأقل دون صرف علماً بأنها النفقات الحقيقية التي تولد فرص العمل وتمثل الاستثمار الحقيقي للدولة وللأجيال القادمة واخشى ما أخشاه أن الحكومة لن تنفق لهذا العام كامل المبالغ المرصودة للنفقات الرأسمالية كاالعادة كون هذه النفقات مشروطة بتمويل المشاريع (وأنتم تعرفون السبب ولا داعي للتوضيح) والتي في العادة ما تكون آخر هم الحكومات ) واضح أن الحكومة الحالية ليست لديها مشاريع لصرف هذه المبالغ رغم الحاجة الماسة لاطلاقها وإذا كان هذا الإفتراض واقعاً وأراه كذلك فستكون الطامة الكبرى إذ أن الدول المانحة ستحتفظ بالمبالغ الممنوحة مالم تكن مُخططات هذه المشاريع جاهزة ولن تسمح بصرف الاعتمادات الخاصة بها وهذه خسارة ما بعدها خسارة ، أولاً لتأخير المشاريع مع ضرورتها ، وثانياً لتأخير فرص عمل جُل الأردنيين في أمس الحاجة لها وفي كلا الحاليين فالحكومات لا تتحمل المسؤلية لأن أخطاء وعثرات الحكومات الأردنية لا يكتوي بها إلا الشعب ، وما الجدوى إذا كانت كل الموبقات التي اقترفتها الحكومات الحالية والسابقة لم يسئل عنها واحداً من الصف الأول لا رئيساً للوزراء ولا حتى وزيراً ولم يتغير شئ لا على الفاسد الحقيقي ولا على المتهم بالفساد من حيث الجاه والتقدير وعدد المناسف!!! فقد اعتاد الأردنيين على تكريم المسؤل صالحاً أم طالحاً ما دام تشجم عناء المسؤلية وابتدأ ولايته بالقول (المُهمة صعبة والتركة ثقيلة وفي قرارة نفسه يقول الأرض خصبة )ولازال في الجراب بقية .