نحن بحاجة ماسة الى التفكير في تغير أنماط الحياة التي استولت علينا، واستجبنا لمقتضياتها، رغم أنها تحمل في طياتها ضرراً كبيراً في صحتنا وعلاقاتنا ومستقبل أجيالنا، اضافة أنها تحمل من دلالات الترف والبذخ والإسراف يفوق ما نحصّله من دخول، ويخالف ما نحمله من قيم وعادات وأعراف وتراث وعقائد سماوية الى حد التناقض.
نحن مقدمون على مستقبل ينطوي على كثير من ألوان القلق والخوف، بل إن الأيام القادمة تحمل تنبؤات في غاية الخطورة حول قدرة الأجيال والشباب المقبلين على الزواج الذين يستعدون الى الشروع في تكوين بيوت جديدة وتشكيل أسر مكتملة، قادرة على أن تشكل محضناً آمناً لأطفالهم، وتحوي أساسيات الحياة المعيشية والصحيّة والتعليمية.
الموضوع لا يحتاج الى دراسات معقدة وأبحاث معمقة، لأن المسألة في غاية الوضوح، وتحتاج فقط الى وقفة واقعية وجادة، ومصارحة مع النفس، وإعادة التفكير المعمق في مسارب الانفاق الكثيرة والمتعددة، التي أصبحت مفروضة علينا بطريقة غير منطقية وغير متوازنة، وأصبحنا أسرى لثقافات وافدة ومصطنعة واختراقات مستهجنة في أنماط المعيشة، ومعايير مختلّة في التعامل مع الحياة تحتاج الى تصحيح.
تقول الدراسات الأردنية إن معدل دخل الموظف الأردني في القطاع العام والخاص يدور حول (400) دينار شهرياً، بما يقارب (5000) سنوياً، فكيف يكون هذا المبلغ كافياً لتغطية نفقات المواصلات وايجار الشقة والتدفئة والإنارة والمياه، فضلاً عن المعيشة والتعليم والصحة، ولم يتم ذكر فواتير الخلويات والانترنت ولعب الأطفال وملابسهم ...!!
في ظل انغلاق الأفق الاقتصادي، والإقبال المحتم على رفع الدعم عن المحروقات والكهرباء والخبز، والارتفاع الجنوني في الأسعار وتكاليف المعيشة لا بد من التفكير الجمعي في مواجهة أعباء الحياة الثقيلة عبر التفكير في التحوّل الجبري نحو أنماط ثقافية جديدة واللجوء الى أساليب حياتية مختلفة قادرة على تقليل الكلفة، بطرق عقلانية مدروسة، وهذا يحتاج الى تعاون ايجابي بين الحكومة ومؤسسات المجتمع المدني والأحزاب السياسية، ووسائل الإعلام، والجامعات والمدارس والكتّاب والصحفيين والأدباء والاباء والأمهات، بعيداً عن منطق الشكوى والنقد، والتلاؤم، وإلقاء التهم فقط..
نحن بحاجة ماسة إلى إعادة النظر في كلفة فاتورة الزواج كلها من حيث حجم الدعوات، واستئجار الصالات والفنادق، وإعداد الطعام والحفلات والصالونات، والمواكب والسيارات المزينة، والألعاب الناريّة، فلماذا لا يتم الاكتفاء بتجمع بسيط من أهل العروسين وقراءة الفاتحة وإتمام مراسم العقد، مع إبداء بعض مظاهر الفرح والإعلان الذي يحمل دلائل البساطة، ثم يتم توفير كل المبالغ المعدة لتغطية الأنماط الشكلية الباذخة التي تفوق قدرة الشباب والعائلات في المتوسط العام، وتوجيهها نحو تأسيس البيت والأسرة الجديدة.
لماذا لا نعود إلى نمط السير على الأقدام والمشي، والتقليل من استعمال السيارات إلا للحالات الضرورية، فكلنا يذكر أننا كنا نسير عدة (كيلومترات) حتى نصل إلى المدرسة، وكان طلاب المرحلة الابتدائية يأتون مشياً من قرية إلى قرية، وكانوا يأكلون من خشائش الأرض ذهاباً وإياباً، ولم يكونوا بحاجة إلى زيارة الأطباء والمستشفيات إلا في حالات الشدة النادرة، وكانوا يتمتعون بحيوية زائدة، وصحة نفسية سليمة، وأبدان قوية، ولا يعانون من الكآبة وسائر العقد النفسية.
ما زلت أذكر طفولتي والعيش في قرية، ليس فيها سيارة واحدة سوى (تراكتور) واحد للحراثة، وجر عربات القش يغطي حاجة القرية كلها، ولم يكن هناك كهرباء ولا صنابير مياه ولا خطوط تلفون ولا شرطة، والمؤسسة الحكومية الوحيدة الموجودة هي المدرسة التي بناها أهل القرية بتبرعاتهم وجهودهم، وكانوا قادرين على حل جميع مشاكلهم من خلال الاعتماد على الذات في كل شيء، ولم يكونوا بحاجة إلى الحكومة إلا لتوفير معلم المدرسة، وتخرج من هذه القرية الأطباء والمهندسون وأساتذة الجامعة ووزراء وموظفون كبار.
ليس المقصود أن نعود إلى حياة القرية آنفة الذكر ولكن المقصود أن نعود إلى البساطة في العادات والأعراف وأن نبتعد عن الأنماط الثقافية المكلفة، دون التخلي عن الطموح المشروع في الوصول إلى أعلى مراتب العلم المفيد الذي يرتد علينا استقراراً وتوفيراً ومهارة في وقف الهدر وضبط الأنفاق، بطريقة فردية وجماعية عامة، تتعاون من خلالها على التكيف مع قسوة الحياة القادمة.
a.gharaybeh@alarabalyawm.net
العرب اليوم