ثمة انسياب مرن في الأحداث والتحولات التي يشهدها الشرق الأوسط؛ ضجيج أقل، وتحولات أعمق. هكذا يبدو مشهد المنطقة في منتصف النهار، على خلاف رتابة ضجيج السياسيين وانتهازيتهم في اصطياد الفرص، وعلى غير العادة في صراخ الإعلاميين وهدير وسائلهم. فالأحداث الجارية منذ أسابيع، وما جاءت به من تحولات، ربما سنكتشف بعد حين أنها الأعمق في المرحلة الثانية من تحولات "الربيع العربي".
ما الذي يحدث على الأرض؟ انتهاء إدارة توازن القوى في الأزمة السورية، والتي كانت تديرها قوى إقليمية ودولية، إلى مرحلة ما يشبه حسم الصراع بعد معركة القصير، في الوقت الذي ما يزال الغرب يعيد إنتاج سيناريو الخلاف حول تسليح المعارضة، وفي اللحظة التي يبدو فيها هذا الغرب أقل رغبة في التورط الفعلي على الأراضي السورية. في هذه الأثناء، تعلن الأمم المتحدة أن عدد القتلى في سورية خلال أكثر من سنتين تجاوز 93 ألفا، مع استمرار العمليات العسكرية التصعيدية على الأرض بدون أفق لحل سياسي للنزاع، الذي تزداد فيه قوة الفرز الطائفي بعد تصاعد حضور حزب الله اللبناني في ساحات المعارك.
هذا التحول تصاحبه ثلاثة أحداث إقليمية، تمضي قدما أيضا بانسياب وهدوء. وكل ما يصاحب هذه الأحداث من إثارة وحركة، لا يعادل عمليا حجم التحولات التي ستأتي بها هذه الأحداث، وهي: حركة الاحتجاجات التي تضرب المدن التركية ضد سياسات حزب العدالة والتنمية، والتي عُدّت الاحتجاجات الأقوى والأكثر تأثيرا في تاريخ الحزب الحاكم، وقد تحمله على مراجعة مواقف الدولة التركية الاقليمية والدولية، كما قد تضرب مكانته في الانتخابات المقبلة. أما الحدث الثاني فهو التغيير الهادئ الذي شهدته قطر الأسبوع الماضي، والذي قد يحمل الكثير حول أدوار هذا البلد الصغير الذي مارس أدوارا كبيرة طوال أكثر من عقد ونصف العقد. فيما يتمثل الحدث الثالث في الانتخابات الرئاسية الإيرانية الهادئة هذه المرة، والتي لا تقارن بالانتخابات السابقة في حجم الضجيج والرهانات عليها. ويسوغ كل هذا الهدوء بأنه ليس هناك جديد قادم، وأن طبيعة النظام الإيراني لا تسمح بالتغيير من بوابة الرئاسة، و"فلتر" مجلس تشخيص مصلحة النظام وسلطة الولي الفقيه لا يسمحان بالتغيير. لكن هذا التحليل يفتقد النظر بعمق إلى أن إيران تديرها عقلانية سياسية قومية، تجعل من مصالحها القومية الأداة التي تدير التغيير. وهو ما سيحدث هذه المرة، لأنها بحاجة إلى التغيير.
المشهد منتصف النهار يعيد ترتيب الاصطفافات وخطوط الاشتباك بوضوح، أكثر من كونه يرسم ملامح نظم أقاليمية جديدة، وهذا مصدر الخطورة. إذ تقود التحولات إلى فرز خرائط الاشتباك مجددا، وأبرز ملامحها الفرز الطائفي؛ حيث تستمر عملية تصنيع الطائفية السياسية كأداة في إدارة الصراعات الإقليمية. فالطائفية السياسية لا تتعايش أبدا مع الديمقراطية؛ وقد جُربت أوهام الديمقراطية التوافقية وغير التوافقية في الحالتين اللبنانية والعراقية بدون جدوى. لكن المسألة المحرجة أن تتحول إدارة الصراعات والنضال من أجل الديمقراطية إلى نغمة الطائفية السياسية، وأن تتورط في ذلك الكتلة التاريخية العريضة التي طالما مثلت الأمة في المفهوم الاجتماعي الإسلامي. وهنا يبدو مصير ومقتل موجة التغيير الثالثة في تاريخ العرب الحديث. هكذا يبدو المشهد في منتصف النهار.
الغد