لا تجد ثرثرة في حياتك، كتلك الثرثرة التي يمارسها سائق التاكسي في عمان، والتي غلب بها الحلاق منذ زمن بعيد، إذ يمضي وقته طوال الطريق، في الكلام يميناً وشمالا، للتسرية عن نفسه، وإن سكت في حالات كان ذلك من فرط تعبه، أو لأن مذياعه يتولى المهمة نيابة عنه.
اتيحت لي الأيام القليلة الماضية فرص نادرة للذهاب ليلا إلى وسط البلد، وفي كل مرة كنت اذهب بواسطة تاكسي أجرة، ولم أسلم -ولا مرة- من ثرثرة سائق التاكسي، الذي تكاد أن تتوسل اليه ان يصمت لأنك تريد تأمل الطريق والناس والليل بهدوء، دون تشويش من احد.
السائق الاول شاب، يفتح لك حكايات الليل في عمان، باعتباره لا يشتغل الا ليلا ويعرف كل النوادي الليلية في العاصمة، وبيوت الرقيق ايضاً، ويغريك طوال الطريق من اجل السهر، والذهاب الى أحد نواديه المقترحة، فتسمع منه اسرار عالم الليل، وتكتشف انه لا يرى في عمان إلا ليلها، وكل ثقافته التي كونها ترتبط فقط بالليل وعالمه، ولا يعرف وجهاً آخر للمدينة، سوى التقاط الزبائن من الشوارع، والسمسرة على الزبائن، فهذا هو عيشه الآثم، معتبرا أن عمان باتت مدينة ليل، على حد زعمه!.
مع سائق آخر تسمع اللهجة الشامية، فتسأل السائق إذا ما كان سورياً، فتكتشف أنه اردني ولد في الشام، لأبوين أردنيين، لكنهما كانا يعيشان في مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين، وقد عادوا قبل شهور الى الأردن، وتصير قصة الشاب طوال الطريق رواية حكاياته وذكرياته عن مخيم اليرموك ودمشق، فتفيض دموعه حزنا على سورية، ويصير همه الأول إقناعك ان مخيم اليرموك لم يتدخل في الفوضى السورية، وان جهات خفية اقتحمت المخيم وجرته إلى هذه المأساة، وطوال طريقه لايرى في عمان ليلا إلا ذكرياته في الشام، وهو فيض اعترف أنه يفيض به لكل راكب معه، يسأله إذا ما كان شامياً بسبب لهجته، معتبرا أن الأمن في الأردن واضح في عمان، وهي مدينة آمنة برأيه!.
سائق آخر يلبس دشداشا ويطلق العنان للحيته، لطيف المعشر، يأخذك طوال الطريق بخطابه الديني، يروي لك احاديث قرأتها قبله، ويفسر لك آيات عرفتها مثله، ويحثك على الخير، مفترضا انك بحاجة لإنعاش ديني، ورغم انه يروي آحاديث ويبتر بعض نصوصها، إلا أنك تسمعه باحترام بالغ، ويقر أنه يستغل سياقته الليلية من اجل الدعوة للدين وحث الناس على الخير والتدين، وبطبيعة الحال لا يرى في عمان إلا مساجدها ولا يرى في البلد إلا الأتقياء والصالحين والشهداء، فهذه هي زاويته الأثيرة على قلبه، معتبرا أن عمان تشهد عودة كبرى للدين، وانحسارا للفساد والفاسدين!.
رابع منهك، تطلب منه ان يتوقف لشراء القهوة، فيشترط ان تدفع أجرة السيارة قبل نزولك لشراء القهوة، فتستغرب طلبه، فيفتح لك ملفا كبيرا عن لصوص عمان، والذين نصبوا عليه، ويبقى طوال الطريق فاتحا فمه من شدة غضبه، من كثرة ما رأى من نصب واحتيال عليه من الركاب وغير الركاب، معتبرا انه لم تبق هناك اخلاق، واصفا اصحاب محال تجارية يمر قربها بأنهم يمارسون النصب ايضا، ويعرف قصصهم، لتصل مروياته الى عمال محطات البنزين وكيف يسرقون السيارات، ولا يرى في عمان إلا قصص النصب والاحتيال، التي تعذب عقله، معتبرا ان كل شخص صاحب هندام قد يكون محتالا اكثر من رث اللباس!.
سائق خامس، حزين جداً، صامت، فلا احتمل صمته، إذ كيف يكون هذا هو الصامت الوحيد في عمان، وفضولي يقتلني، فأستفزه مثنى وثلاث ورباع، كي يتكلم، واندم على استفزازه لاحقا، اذ اكتشف أن للرجل ابنا عشرينيا تم قتله غيلة وغدرا، قبل عام، والذين قتلوه في السجن، وحزنه عليه يلف الدنيا، فيفتح قلبه ويفيض عليك من بحر احزانه، حول ابنه الوحيد، ومعاناته مع أهل القتلة والجاهات والمحاكم والمغافر، ويأخذك من هناك الى عالم المظلومين وانتشار السلاح والجريمة، ولا يرى في عمان إلا مظلمة ابنه، وهو يمضي النهار والليل كما يقول متأملا الذي جرى له ولعائلته، معتبرا أن عمان مسلحة والسلاح بيد الجميع، وغريزة القتل في دمنا جميعا لا يستثني منا حدا.
كلهم كانوا يتحدثون عن ذات المدينة، ويظن كل واحد منهم انه الوحيد الذي يعرف المدينة والقادر على وصفها وكشف أسرارها ، ما بين الذي يراها مدينة للسهر، والذي يراها مدينة الطائعين والصالحين، وذاك الذي يراها مدينة للجريمة، وآخر يحمل قصة المخيم على ظهره بعد عودته المستجدة الى المدينة الآمنة، .
ترى المكان كما يريد لك أن تراه، لا كما هو أصلا.
الدستور