كان الأردنيون وما يزالون على قناعة تامة بأن اتصالاتهم الهاتفية، ولاحقا "إيميلاتهم" على شبكة الإنترنت، تخضع لمراقبة أجهزة الأمن الأردنية، وأن ثمة شخصا ثالثا يتنصت على كل دردشة هاتفية بين شخصين. ويحصل في أحيان كثيرة أن يغوص شخص في مواضيع حساسة على الهاتف، فيبادر محدثه على الطرف الثاني إلى نهره: "لا تحكي على التلفون". وفي حالات أخرى، يكون الشخص غاضبا وفاقدا لأعصابه لسبب ما، فيقول لصاحبه على الطرف الآخر: "بدي أحكي خليهم يسمعونا"؛ في إشارة منه إلى الجهة التي تتنصت على هاتفه.
لكن بالأمس فقط، تبين أن التنصت "الوطني" يهون مع ما كشفته صحيفة "ذي غارديان" البريطانية عن برنامج التجسس الأميركي "مخبرون بلا حدود"، والذي يمكّن أجهزة الاستخبارات الأميركية من التجسس على هواتف وحواسيب ملايين البشر حول العالم. والمفاجأة الكبرى أن الأردن يحتل المرتبة الثالثة بين دول العالم في عدد التقارير الاستخبارية التي تم جمعها في شهر واحد؛ إذ بلغت نحو 13 مليار تقرير في شهر آذار (مارس) الماضي فقط. والمقصود بالتقارير هنا هو عدد المكالمات و"الإيميلات" التي تم رصدها وتسجيلها. بهذا المعنى، فإن لكل مواطن أردني "ريكورد" لدى أجهزة الاستخبارات الأميركية، بمن فيهم ذات الأطراف والأشخاص الذين يقومون بمهمة التنصت على المستوى الوطني.
جاء ترتيب الأردن بعد إيران وباكستان، وحلت مصر رابعا. واكتساب دول مثل إيران وباكستان مكانة متقدمة على أجندة الاستخبارات الأميركية له ما يبرره؛ فالأولى مصنفة في خانة الأعداء، والثانية مسرح رئيس للتنظيمات المتشددة، ولا ننسى أن بن لادن قتل على أراضيها. لكن ما قصة الأردن؛ الحليف والصديق التاريخي للولايات المتحدة؟
على ما يبدو فإن الصداقة شيء، والمصالح الأمنية شيء آخر. صحيح أن الأردن شريك استراتيجي في الحرب ضد الإرهاب على المستوى الرسمي، وقد لعب دورا محوريا في ملاحقة الجماعات المتطرفة في المنطقة والعالم الإسلامي، لكنه على المستوى الشعبي كان بمثابة أكاديمية لتخريج قيادات معروفة في تنظيم القاعدة، ومده بمئات المقاتلين في كل ساحات"الجهاد"؛ من أفغانستان إلى العراق مرورا باليمن والشيشان، وأخيرا وليس آخرا في سورية التي يزيد عدد المقاتلين الأردنيين فيها عن 500 مقاتل، انتظموا جميعهم في صفوف جبهة النصرة، المرادف التنظيمي لتنظيم القاعدة.
لهذه الاعتبارات، تحظى مراقبة الاتصالات في الأردن بأهمية خاصة لدى أجهزة الاستخبارات العالمية، والأميركية على وجه التحديد.
منذ أحداث 11 سبتمبر، أصبح العالم العربي والإسلامي في نظر أميركا مشتبها به، يحتاج للمراقبة كل فرد فيه على مدار الساعة. وقبل الكشف الأخير عن برنامج "مخبرون بلا حدود"، كانت الصحافة الأميركية قد أماطت اللثام عن برنامج التجسس على المعاملات المصرفية الذي أنهى عهد السرية على هذا الصعيد، وفتح المجال أمام الدول لتجميد مئات الحسابات المصرفية لأشخاص يشتبه في أنهم على علاقة بالتنظيمات الإرهابية.
وقبل ذلك التاريخ، كانت الولايات المتحدة أطلقت أقمار تجسس اصطناعية قادرة على رصد وتحليل 5 ملايين بريد إلكتروني في الساعة، و35 مليون اتصال هاتفي.
الأمر لم يقتصر على أميركا وحدها. ففي العام 2006، كشفت وسائل الإعلام عن برنامج تجسس تمكنت الصين من خلاله من اختراق الكمبيوترات وشبكات الاتصالات في 103 بلدان.
والتنصت بالتنصت يُذكر؛ ففي العام الماضي، تبين أن صحيفة "نيوز أوف ذي وورلد" البريطانية تتجسس على مئات المشاهير في بريطانيا، وتستغل المعلومات في تقاريرها الصحفية، الأمر الذي حدا بمالك الصحيفة، روبرت مردوخ، إلى إغلاقها، وما تزال فضيحة الصحيفة منظورة أمام القضاء.
ثورة الاتصالات أصبحت في خدمة أجهزة الاستخبارات العالمية؛ ألم يقولوا من قبل أن العالم أصبح قرية صغيرة!
الأفضل إذن أن "تحكوا"، لعلهم يسمعونكم هناك في أميركا.
الغد