تصادف أنني كنت أقرأ مقالا للكاتب البريطاني من أصل باكستاني طارق علي، عن الأزمة السياسية في باكستان، قبل يوم من حادث اغتيال السيدة بنازير بوتو، وكنت قد وضعت خطا على تشبيه استخدمه الكاتب لبنازير بوتو وعودتها إلى باكستان حيث يقول الكاتب طارق علي: ..يبدو أن مشرف غارق في بحر المشاكل، وهكذا فإن وزارة الخارجية الأمريكية قد دفعت بقارب مطاطي منفوخ أكثر من اللازم اسمه بنازير بوتو! المقال منشور في المجلة اللندنية المحكمة والرصينة London review of books في تشرين أول الماضي، تحت عنوان (باكستان في ستينها)، ولا أخفي إعجابي بقدرة هذا الناشط الباكستاني الأصل على لملمة الشذرات والتقاط التفاصيل لتكملة الصورة، ثم تحليل الحالة على طريقة التفكيك والبناء من جديد.وعودا على بدء..
فإن تشبيه طارق علي لبوتو، كان قبل اغتيالها، لكن الصورة التشبيهية لها مداها غير المنتهي حينها، فالقارب المطاطي المنفوخ أكثر من اللازم لا بد أن ينفجر، وهذا ما حدث ورحلت بوتو في انفجار انتحاري ورصاصات قاتلة اخترقت عنقها، وشوهت وجهها المشرق والجميل، وهو وجه له سماته الساحرة، ولد في الشرق، ونشأ في الغرب، ثم عاد إلى الشرق قائدا وزعيما.
قراءة طارق علي -قبل اغتيال بوتو وبعدها- نبهتني إلى ضرورة قراءة أهل باكستان الأدرى بشعابها، بدلا من قراءات مغلوطة قادمة من الغرب، يجيد مؤلفوها الغربيون تضخيم تفاصيل كأنها هي القضية، وتحجيم تفاصيل كبيرة كأنها لا شيء، مما يؤدي في النهاية إلى قراءات مضللة وبالتالي فهما محشوا بالنظريات الكثيرة، لكن يشوبه عيب بسيط، أنه لا يتحدث عن باكستان مطلقا.
وفعلا بدأت..فعالم الفضاء الإلكتروني شاسع ومتاح.
من قراءة مكثفة على مدار يومين لكتاب من باكستان، من باكستان أو خارجها، تختلف عندي الرؤية بشكل حاد ومعاكس، لأن العنصر الأساس والمضلل الذي كنت أحمله في ذهني ان باكستان تعاني من ظاهرة المتطرفين الأصوليين، لأكتشف أن هؤلاء ليسوا في واقع الحياة اليومي لباكستان إلا تفصيل على ضفاف الهامش مثل جغرافيتهم التي تنحصر في زاوية ضيقة من جبال الهندوكوش شمال غرب باكستان وهم جيوب متناثرة على طول حدودي يقارب الثمانمائة كيلومتر.
وحتى قبل أحداث سبتمبر، فإن هؤلاء المتطرفين ما كانوا ليكونوا في الحياة السياسية لولا موافقة الجيش والعسكر على توريطهم في التعقيدات السياسية لباكستان، فهم دخلوا الحكومة أيام ضياء الحق بوزارتين وبطلب منه لكبح جماح معارضيه.
باكستان مشكلتها ليست بالمتطرفين، فهم عنصر تغذية إعلامي قابل للهضم للمشكلة الحقيقية التي تواجهها باكستان، وأعني الولايات المتحدة، فأمريكا من جهة وقدرة باكستان النووية من جهة اخرى هما معضلة باكستان، وحين نقول القدرة النووية فإن هذا يشمل بالضرورة العسكر وجنرالات الجيش.
مشرف ليس استثناءا عن القاعدة، فهو جنرال طموح، محاط بسياسيين متملقين، ومدعوم امريكيا، لكنه -كعسكري- في بلاد متخمة بالفساد الإداري لم يمسك عصا السياسة من المنتصف، بل أمسكها كعطا ماريشالية تحت ذراعه، حين اختار الصدام مع قوى المجتمع الحية والكامنة بغضب عبر مواجهته المباشرة مع رئيس المحكمة العليا افتخار شودري.
الصراع السياسي الداخلي في باكستان قائم على قوى مجتمعية مطالبة بالإصلاح الديمقراطي، مبعثرة وغير متناسقة مع بعضها البعض، ولا يجمعها إلا الغضب المكبوت من فساد هائل على يد رجال في الحكومة، وفجأة اجتمعت تلك القوى على قضية واحدة، هي قضية القاضي شودري، الذي ركب الموجة السياسية مباشرة، وخرج عن صمته ليقوم بجولة عبر طول البلاد وعرضها مخاطبا عشرات الآلاف من الجماهير الغاضبة، وخلفه القوى التي كانت مبعثرة، ولم يكن الخلاف مع السلطة حينها محوره بزة مشرف العسكرية، بل كانت القصة أكثر محلية، تتعلق بقضايا الفساد التي كان القاضي ومحكمته يحققون بها، وتطال رموزا سياسية في السلطة، من ضمنهم شوكت عزيز، رئيس الوزراء المحمي من قبل الجنرال مشرف.
لقد استطاعت اميركا والإعلام الغربي ومن خلفهم مشرف وبوتو ونواز شريف أن يحولوا الأنظار إلى قصة واحدة تتعلق ببذلة عسكرية سيخلعها مشرف في النهاية، ورغم عودة القاضي شودري إلى موقعه القضائي، وهو انتصار ديمقراطي كان اجدر بالضجيج الإعلامي، إلا أن أحدا لم يتحدث عن ذلك.لكن المرجل الباكستاني كان في المراحل النهائية من غليانه.
مقتل بنازير بوتو، وبعيدا عن أي محاولات بوليسية ساذجة تلقي الاتهامات هنا او هناك، كان جزءا من سياق تم توظيفه، والمستفيدون من كل هذا الرصاص والدم والفوضى ليسوا في باكستان، ولا هم من باكستان.
\--عن الرأي
mowaten@yahoo.com