منذ التأسيس، والذي ترافق مع السعي إلى توطين البدو، ظهر الدور الرعوي للدولة، والتي بنت العلاقة بينها وبين المجتمع، بالنتيجة، على أساس مصالح متبادلة بين الطرفين؛ ترتكز على تقديم الهبات والأعطيات من "الدولة الرعوية"، مقابل التزام الناس بالقانون الذي تضعه وتطبقه.
بعد عقود من عمر الدولة وتكشف سلبيات النمط الرعوي، سعت الدولة إلى تغيير النهج الاقتصادي القائم.
فبدأنا نشهد تغيرا جذريا في العلاقة بين الطرفين، أبرزه توقف الدولة عن تقديم الأعطيات والمنافع للمجتمع، إيمانا بأن المطلوب هو أسلوب إدارة ركيزته الإنتاجية والعمل.
مضت الحكومات في تطبيق رؤيتها الجديدة. لكن فشلها الكبير تمثل في عجزها عن توفير بديل لمصادر العيش في المناطق التي طالما اعتمدت على الدولة، وتحديدا في الجنوب.
المجتمعات الجنوبية شعرت بالخذلان وبالتخلي عنها، ولم يعد ارتباطها وثيقا بالدولة كما كان في الماضي، وذلك بعد أن تبخرت المصالح، ولم يعد القانون وسيادة الدولة مسألة تعني بعض تلك المناطق، طالما أن العشيرة والانتماء الضيق أقدر على حماية مصالح المواطن وحقوقه هناك، من الجهات المسؤولة.
الجنوب صحا فجأة ليجد نفسه بدون معين ولا حامٍ، الأمر الذي انعكس، وبشكل تراكمي، على ما يحدث في تلك البقعة من المملكة، وليصبح البديل تجارة مخدرات وأسلحة، وأكثر من ذلك مجتمعات غاضبة لا تجد من ينصفها ويقف في صفها، بعد أن أدركت تخلي الدولة عنها وعن أبنائها، ما دفعها إلى سلوك طريق أخرى تعوضها عن خسائرها.
ولم يسعف الجنوب تراكم الخيرات في أرضه، بحيث يكون مركزا تنمويا حقيقيا منتجا، بل ظلت الخطوة متأخرة؛ مرة بحجة أن أهل المنطقة لا يقبلون على العمل، ومرة أخرى بسبب فشل كثير من المبادرات، إذ لم نشهد مبادرة واحدة تنتشل الجنوب من البؤس الذي ظل يغرق فيه حتى وصل إلى ما وصل إليه.
قبل عقود، كان القانون وتطبيقه واحترامه والخضوع له، واحترام هيبة الدولة، جزءا من "الاتفاق". بيد أن تخلي الدولة عن دورها وتنصلها من ذاك "الاتفاق"، دفعا أبناء تلك المناطق إلى التحلل بدورهم من التزاماتهم؛ فلم يعد القانون يعني لهم شيئا، ولا شيء يربطهم بالمركز.
بالنتيجة، زاد الفراق بين الطرفين، حتى لم يعد الجنوبيون يفطنون لوجود الدولة والقانون والمؤسسات، وألغوا من قاموسهم مصطلح سيادة القانون، في وقت أسرفت فيه الحكومات في إهمالها للجنوب. وها هي المطالبات مستمرة حتى اللحظة بضرورة العمل على إحداث التنمية الشاملة، والارتقاء بالسوية الاجتماعية للجنوب، والهدف تجفيف منابع الاغتراب والشعور بالتهميش والفقر.
بعض أبناء الجنوب ما يزالون يظنون أن الفرصة لم تفت بعد لإعادة الجنوب إلى حضن الوطن، وما يزال صوتهم يرتفع مطالبا بتطبيق القانون ومحاسبة الخارجين عليه، حتى وصل الأمر بهم إلى التهديد بالعصيان المدني في حال لم تقم الأجهزة الأمنية بواجبها لناحية حفظ الأمن والسلم.
الوصفة ليست سرا، ولا أحد يقف في وجه تطبيق القانون؛ فمطلب دولة القانون والمؤسسات يصدر عن كل عاقل يسعى إلى إنهاء حالة الفوضى التي تسود بين حين وآخر نتيجة تهرب الجهات المعنية من مسؤولياتها.
معان اليوم على فوهة بركان، إخماده بحاجة إلى إدراك حجم المشكلة هناك. فمصدر الخطر الحقيقي على الأمن والسلم المجتمعي ليس المعارضة المؤطرة بكل تلاوينها، وإنما هو بالتأكيد تلك المجتمعات التي تشعر بالاغتراب في بلدها.
jumana.ghunaimat@alghad.jo
الغد