ما فتئت قنوات إعلامية، ومواقع إلكترونية، تبث خطابات طائفية تحريضية، تساهم في تشتيت الوعي العربي، وتوجيه سواد المجتمع نحو خلافات ثانوية. وهي بذلك لا تريد سوى تغيير البوصلة عن مكانها الصحيح، وتغيير النظر عن العدو الحقيقي للأمة، باتجاه قضايا ثانوية تفرق أكثر مما تجمع.
لا أعتقد أن الطعن بالمذاهب والفرق الإسلامية في هذا الوقت هدفه الدفاع عن الإسلام والمسلمين. ولا أرى أن زيادة حقنة الشحن المذهبي التي تقوم بها جهات "مشبوهة"، مراد منها وضع الأمور في نصابها والانتصار لمذهب دون آخر؛ فذاك عزف نشاز هدفه إثارة نقمة في النفوس، وتحريض طرف ضد آخر، لإضاعة البوصلة ومن ثم الطريق، وخلق مشاكل في البلد الواحد، والأمة الواحدة، وبالتالي زيادة الفرقة والمساهمة في تقسيم الأمة.
لا شك أن اعتداء "الثقافي" مدان، وضرب دبلوماسيين لمواطنين أردنيين يستحق الإدانة والاعتذار، بيد أن التحشيد المذهبي الذي رافق ذاك، وسوق عكاظ الذي فتحه البعض، ومنهم نواب تحت قبة البرلمان، كان يمكن استبداله بتفعيل الوسائل الدبلوماسية وعدم ركوب الموجة، وسحب فتيل التعصب المذهبي.
دعونا نعود إلى الوراء قليلا، عندما كان عدو العرب، بكل أطيافهم وأديانهم ومذاهبهم وأفكارهم وتوجهاتهم وأحزابهم، هو إسرائيل؛ وكان العرب، من مراكش وحتى صلالة، يخرجون منددين بما تقترفه آلة القمع الصهيوني من مجازر أو اعتداءات بحق الشعب الفلسطيني.
ولكن بعد أن زرع أعداء الأمة سمومهم في أجسادنا، وادخلوا القتلة الإسرائيليين إلى بيوتنا عبر محطات فضائية، بهدف قلب بوصلة الأمة، تشتت الأفكار، وذهب كلٌ إلى حيه يداوي جرحا سال هنا، ومؤامرة تصنع هناك.
أيادي من فعل ويفعل ذلك معروفة؛ فهم أنفسهم الذين ما كانوا يوما مع الحق العربي، ولم يناصروا يوما القضايا العربية، ولم يقفوا مع مطالب الشعوب. وهم أنفسهم من باتت فتاويهم واضحة لا يريدون منها إلا زعزعة يقين الأمة، وإلهاء الشعوب بقضايا فردية هنا واشتباكات هناك، وغض النظر عن العدو الحقيقي الذي يسرح ويمرح، ويصول ويجول، بدون أن ينبسوا ببنت شفة، وبدون أن نسمع من فتاويهم فتوى واحدة تتعلق بالعدو الحقيقي، وتحض على ما يدعون إليه من فتنة في العراق وسورية ولبنان.
هؤلاء يريدوننا ببغاوات، نردد ما تقول قنواتهم، ونكره من يكرهون، ونغضب عندما يغضبون، ونصادق من يصادقون، ونعادي من يعادون.
يريدوننا أن ننسى أن وطننا الكبير وقع تحت نير الاحتلال التركي والفرنسي والبريطاني والأميركي والإيطالي سنوات طوالا، وأن نؤجر عقولنا ونتناسى أن إسرائيل تحتل فلسطين قلب العروبة النابض، وأننا في الأردن عروبيون وقوميون منذ التأسيس.
لذا، وإن ضاعت بوصلة بعضنا يوما، فستعود سريعا؛ وإن استطاعت قنوات عبر ما تبثه يوميا من سموم مذهبية بغيضة تشويش الرؤية، فإن النظر من المؤكد سيعود سليما معافى، والبوصلة ستعود إلى مكانها الطبيعي.
هم يريدون أن نقتنع أن عدونا ليس إسرائيل أو بريطانيا أو أميركا أو فرنسا، وأن ننسى أنهم سهلوا احتلال فلسطين، وأن تلك الدول استباحت أرضنا مئات السنين؛ ويريدون أن نتعامل مع روسيا والصين وإيران وجنوب إفريقيا والهند ودول أخرى كأعداء لنا.
سادتي افعلوا ما تريدون، ولكننا لن نلعن يدا ضربت إسرائيل يوميا ودكت تل أبيب. وستبقى تلك اليد فوق أياديكم يا تجار الفرقة والمذهبية.
كفاكم ما تمارسونه يوميا من قلب للحقائق، وزعزعة للنفوس، وغرس بذور الفتنة الطائفية بين أبناء الشعب الواحد، ورعاية من يقتلون أبرياء وأطفال وكهلة.
أما أولئك صغار القوم الذين لا يجيدون غير لغة السب والشتم كوسيلة للحوار، فإننا نقول دعوهم فإنهم مأمورون، وينفذون أوامر سيدهم العتيد.
jihad.mansi@alghad.jo
"الغد"