أثارت مقالتي "الديجيتاليون" والصفريون ردوداً متنوّعة، وهذا ما يتمنّاه أيّ كاتب لأية مقالة له، ولكنّها أثارت أيضاً فهماً مغلوطاً من بعض القراء أحبّ أن أوضّحه، وخصوصاً أنّه يتناول واحداً من الأشخاص الأعزاء على قلبي، وأكنّ له إحتراماً إستثنائياً، بل وإعتبره أحد الذين أثّروا في حياتي، ولي معه العشرات من المواقف، ولا يستأهل منّي إلاّ الشكر والتقدير والعرفان، ولم أسمح لنفسي أن أجرح في شعوره ولو شعرة واحدة.فالأستاذ عبد الرؤوف الروابدة، إبن الناس العاديين مثلنا، الذي أخذ بذراعه كلّ موقع شغله، ولم يرض بلقب دولة نهاية لحياته السياسية، فعاد إلى حيث تمثيل الناس، وفي كلّ أيام حياته لم يكن إلاّ نصيراً للعلم، لا يستأهل إلاّ تُقال بحقه قولة الحقّ.
وفي توضيحي لما جرى أقول: إنّ الأستاذ الروابدة لم يكن من نَحَتَ مصطلح الديجيتاليين، بل هو مصطلح صار متداولاً في السياسة الأردنية منذ ثلاث سنوات على الأقل، وإن كان هو آخر من إستعمله، لهذا فالمقصود ليس هو، ولكن الإستخدام للمصطلح.
وإنّ الأستاذ الروابدة يحمل وجهة نظر بالنسبة لما يجري في بلادنا، أؤيد الكثير منها، وأخالف غيرها، وكثيراً ما ناكفته حتى خلال رئاسته الحكومة، فلم أعرف منه إلاّ إحترام الرأي الآخر، حتى حين كانت تصل الأمور إلى ما يشبه كسر العظم، فلم يكسر عظماً، وظلّ أميناً على الحوار، كما كان أميناً على عمّاننا الحبيبة لم يرتق لأمانته خلف ولا سلف.
فأنا لم أقصده، ولو بدا ذلك من السياق، فأنا أقصد توجّهاً وليس شخصاً، وإذا كان الأرشيف سلاحاً مهماً فأنا أستعيد مقالة لي نُشرت في "الدستور" قبل إستقالة حكومته بشهر، وأنشره لتوضيح موقفي المحترم للرجل، والمختلف مع بعض توجّهاته، وأقول إنّه قابل المقالة بالكثير من الديمقراطية، مع ثباته على موقفه.
يقول المقال، الذي نُشر تحت عنوان "تكفين الحكومة
"http://www.addustour.com/ViewarchiveTopic.aspx?ac=\opinionandnotes\2000\04\opinion123.html:
قبيل استقالة احدى الحكومات، قبل سنوات قليلة، كنت الى جانب الاستاذ عبد الرؤوف الروابدة، وسألته: هل سترحل الحكومة قريبا؟ رد بطريقته العفوية الطريفة: الحكومة باعتبار الميتة، ولا ينقصها سوى التكفين!
وبعد ساعة، او اقل، استمعنا الى نبأ استقالة الحكومة، وتكليف الدكتور فايز الطراونة بتشكيل الحكومة الجديدة..
وليلة التكليف غير الرسمي للاستاذ الروابدة، اتصلت به، وقلت: دولة ابو عصام! رد بطريقته المعهودة: العب غيرها، فرئيس الحكومة ما زال رئيسا للحكومة! اجبته: لكن الحكومة ميتة، ولا ينقصها سوى التكفين، ضحك من قلبه، وقال: اذن عليك الانتظار حتى الغد!
وقبل اسبوع، من اليوم، كان دولته يعاتبني في قاعة الصور، في الديوان الملكي، على كتاباتي، في مشهد طريف، خفيف الدم، اقترب مني، وقال: هاي! قلت له: هاي! قال: هاو ار يو؟ رددت: آي آم فاين! قال: ظننت انك كلينكس! قلت: انك تتحدث بالانجليزية يا دولة الرئيس، رد: لم اعد افهم عليك بالعربية، فقد نتفاهم بالانجليزية.
ثم اخذ ينتقد من تسميهم الصحافة بالليبراليين، وقال انهم قمعيون حين يكونون في السلطة، ونفى عن نفسه تهمة الحرس القديم، واكد انه اصلاحي..
كان في ذروة شرحه، حين اقترب منا احد الاسماء المتداولة لرئاسة الحكومة المقبلة، فقلت له: اهلا دولة فلان! امتعض دولة ابي عصام، وانتهى الحوار القصير!
اتذكر هذا كله، وانا استمع الى خبر مذكرة النواب، التي تطالب بحجب الثقة عن الحكومة، وهذا العدد الضخم من الموقعين، والمرشح للتصاعد حتى يصل الى عدد مانحي الثقة للحكومة، الذي سجل يومها رقما قياسيا، فنتساءل: هل صارت الحكومة ميتة، وتنتظر التكفين؟
وفي حقيقة الامر، فان الانصاف يقتضي ان يخرج التحليل عن »الشخصنة«، ليدخل في السياسات، وفي الاولى لا يمكننا ان نسجل للرئيس وطاقمه الا كل الثقة، والاخلاص الوطني، اما في السياسات فحدث بلا حرج، لنرى ان الاردن كان يتحدث بلغتين مختلفتين، لغة مؤسسة العرش العصرية الاصلاحية، الذاهبة الى تطوير وسائل عمل جديدة، وفتح آفاق تطور واثق، ولغة الحكومة الغارقة في مفردات الماضي، الممتلئة بالشعارات العتيقة التي تملأ صفحات الصحف، لكنها لم تعد تقنع عقلا واحدا، ولن ننسى ان الحكومة اعترفت في يومها الاول بان الاقتصاد الوطني في غرفة الانعاش، لكنها عادت بعد ايام لتقول بانه بدأ في دخول مرحلة الانتعاش..
ويبقى ان اللعبة الديمقراطية تقتضي الاعتراف بكل قواعدها، واذا كان الاستاذ الروابدة قاد مذكرة نيابية لحجب الثقة عن حكومة طاهر المصري، وتعامل الاخير بديمقراطية فرضخ لرغبة تسعة واربعين نائبا واستقال، وكانت سابقة فان السياق الطبيعي ان نرى الروابدة يرضخ لرغبة كذا وخمسين نائبا، او اكثر، ويقدم استقالته..
وبهذا سيكسب احترام الجميع...
إنتهى الإقتباس، وأقول هنا إنّه إكتسب إحترام الجميع وتقديرهم حين قبل بروح رياضية كلّ تلك الأجواء، وعاد إلى الحياة العامة من أوسع الأبواب، باب النيابة عن الشعب، وفي مواقفه تحت القبة كان يُكرر رؤيته التي تنتهج المحافظة، وترفض الليبرالية المنفلتة، وكنت أتمنى لو أنّه لم يستخدم مصطلح الديجيتاليين، واكتفى بالليبراليين، فهذا ما ظلّ يؤكد عليه دائماً، وهو صحيح، أمّا إصطلاح الديجيتاليون فهو مسيئ للعلم، الذي أعرف أنّ خريج الجامعة الأميركية في الستينيات أهم مناصريه ودعاته.
ويبقى أنّني أعود وأكرر، فأنا أملك الجرأة للإعتذار للرجل إذا ظنّ أنّه المقصود، فقد عرفته منذ الثمانينيات رقماً صعباً، وما زال كذلك.