منذ البداية، كانت القضية معروفة ولا تحتاج "روحة على القاضي"؛ الحكومات البرلمانية غير قابلة للتطبيق بدون برلمان تعددي حزبي. وذلك لا يتحقق بغير قانون انتخاب يعتمد مبدأ التمثيل النسبي على نطاق واسع، وانتخابات تشارك فيها جميع القوى السياسية والاجتماعية.
قال كثيرون ذلك ورددوه ألف مرة في السنة التحضيرية للانتخابات، لكن لا حياة لمن تنادي. أصرّ أصحاب القرار على رأيهم بقانون الصوت الواحد، مع مسحة إصلاحية شكلية تمثلت في القائمة الوطنية؛ لكن أثر هذه تلاشى تماما بعد الانتخابات، وفقدنا نوابها الـ27 وسط زحام أغلبية ساحقة من المستقلين.
ها نحن اليوم نعترف بالحقيقة المُرّة؛ الحكومة البرلمانية متعذرة، ولا سبيل للوصول إليها بغير أحزاب وبرلمان تعددي. اعتراف متأخر لا يفيدنا بشيء؛ البرلمان قائم، ولا يمكن الفكاك منه إلا بانتخابات مبكرة ليس واردا اللجوء إليها في الوقت الحاضر.
أسابيع طويلة ورجال الحكم يحاولون مداراة الفشل عبر مشاورات ثبت بالوجه القاطع اليوم أنها عقيمة وبلا معنى؛ فلا النواب شاركوا في الحكومة، ولا هم استطاعوا ترشيح من يمثلهم من خارج المجلس، فكانت النتيجة حكومة مصغرة بلا لون ولا طعم سياسي. وعندما فكر رئيس الوزراء د. عبدالله النسور، بتوسيعها وإعادة تأهيلها برلمانيا، اصطدم بعقبة توزير النواب، فتراجع خطوة إلى الوراء بدون أن يعرف الخطوة التالية.
على الأرجح، سيجري د. النسور تعديلا وزاريا على الطريقة التي عهدناها من قبل؛ بضعة أشخاص من المعارف يضافون إلى الحكومة، ثم نعود إلى الشكل التقليدي من العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية؛ مناكفات ومساومات، بلا إنجاز يذكر على صعيد عملية الإصلاح السياسي.
باختصار، أربع سنوات أخرى تضيع كالتي طوينا مثلها الكثير في الماضي. كل ذلك بسبب إصرار بضعة أشخاص متنفذين على تصور رجعي لقانون الانتخاب، ورغبة طبقة سياسية من حولهم في الاستحواذ على مقاليد السلطة إلى الأبد.
بيد أن الفرصة الضائعة هذه المرة ليست مثل سابقاتها، فهي تأتي في ظروف داخلية وإقليمية بالغة التعقيد؛ الاقتصاد يترنح ويواجه استحقاقات مكلفة اجتماعيا وسياسيا، ومجتمع منقسم على نفسه أكثر من أي وقت مضى، ومن حولنا حروب مشتعلة أو على وشك الاشتعال، وإقليم يدخل حالة من الفوضى والاقتتال الطائفي، ما من دولة بمنأى عنهما.
وبسبب غياب القوى المسيّسة عن المشهد النيابي، وانعدام الانسجام بين أوساط الحكم، تواجه الدولة حالة غير مسبوقة من الارتباك وسوء التقدير؛ تتخبط في إدارة أزمة جامعة الحسين في معان المغلقة حتى يومنا هذا، وتعجز عن تقدير ردة فعل النواب حيال قضية المسجد الأقصى أو التعامل معها، فتطلب المساعدة من السفير الإسرائيلي لتخرج من إحراجها. وعلى الجبهة الشمالية، يبدو الوضع مقلقا للغاية؛ إذ يشعر أغلبية المواطنين أننا نتعامل مع قضية اللاجئين بالقطعة، وبدون استراتيجية واضحة؛ نكتفي بالتبليغ عن أعداد القادمين يوميا، وبقرب تجاوزهم حاجز المليونين، من غير أن نجيب عن السؤال المؤرق: ماذا سنفعل بكل هؤلاء إذا ما طال الصراع في سورية؟
الآن، وبعد أن عدتم من عند القاضي محملين بالجواب المعروف سلفا، ماذا بوسعكم أن تفعلوا لإنقاذ فرصة الإصلاح قبل أن تداهمنا الأحداث؟
الغد