«الشِّعر» الثوريّ و النثر الليبراليّ
هشام غانم
25-12-2007 02:00 AM
على رغم تأثير الصحافة في السياسة، و توسّلِ الثانية بالأولى، يبقى أنّ ليس في وسع واحدتهما أنْ تقوم مقامَ الأخرى؛ فالسياسة ليست الصحافة، بديهة. فلئن لابستْ السياسةُ الصحافةَ، فقدتْ الأخيرةُ إحدى أهمّ خصوصيّاتها. و لكنّ البديهة هذه، تغيب عن معظم المشتغلين في حقل الصحافة الأردنيّة. و في هذا المعرض، و هو معرض ثقافيّ، يرتدّ الصحافيّون مناضلين و محرّضين و دعاويّين (مِنْ دعاوة).«البلاد» المتكسّرة كخصور الجواري
و تَدور معظم دعاوى «الصحافيّين» (أي المناضلون الذين يحسبون أنفسهم «سياسيّين») على مدار واحد: هجاء الليبراليّة، و التنديد بها، و ربّما الإثخان فيها. فيقول «كاتبٌ» مزعوم و داعية حقيقيّ إنّ «الليبراليين باعوا البلاد و العباد للغرباء». و تقديمُ «البلاد» على «العباد» ليس هفوة أو عفوَ القريحة، و ليس تضايف اللفظتيْن مبعثه البلاغة و السجع؛ فبحسب الحكمة الريفيّة ينبغي أنْ «نموت كلّنا و يحيى الوطن»، مِنْ غير أنْ نعرف مَنْ سيحيي الوطن غداةَ «موتنا كلّنا». و كان «دولة» سابق ذهب مذهبَ الداعية إيّاه، فقال إنّ «الديجيتاليون فككوا أجهزة الدولة حتى غدت كلعبة الليغو». و «الديجيتاليون» (على ما يرطن واحدُنا حين يستعجم) هم كناية عن الليبراليّين. و يسهو «دولته»، شأن زميله الداعية، عن أنّ قولهـ«ما» يستبطن احتقاراً و ازدراءً لـ«البلاد». فالأخيرة، و الحال تلك، مِنْ طينة لدنة و طوعَ أنامل الحوريّات، متكسّرة كخصور الجواري؛ هي «لعبة» في أحسن الأحوال.
الليبراليّة و «المؤامرة»
و اللعبة هذه، تحتاج «لاعبين» لتفكيكها، و اللاعبون هم الليبراليون. و جرت العادة أنْ يُنْعَت الليبراليّون بــ«الفتيان»، و الفتيان غرٌّ طائشون، لا يسعهم «تفكيك الدولة». إذ ذاك، ينبغي أنْ يُحْمَل «الفتيان» على محمل مؤامرة إمبرياليّة و صهيونيّة، أو إمبرياليّة-صهيونيّة معاً. فإذا عُطِف الليبراليّون على الإمبرياليّة-الصهيونيّة، جازَ أنْ يُنْسَب لهم «تفكيك» الدولة و «بيع البلاد و العباد»، مِنْ غير الوقوع في مأزق نَسْبِ الفعل العظيم إلى «فتيان» أغرار. غير أنّ الخلل البنيويّ الذي يقع فيه المندّدون بالليبراليّة هو جهل بعضهم بها. و البشر أعداء ما يجهلون، و الجاهل متطرف. و الحقّ أنّ الجهل بالليبراليّة مردّه إلى امتناعِ و استعصاءِ تعريفها؛ فهي لئن عُرِّفت، كفّت عن كونها ليبراليّة. و لكنّها، على رغم ذلك، لا تنفكّ ليبراليّةً؛ بما هي إعلاء للإنسان (الفرد) كقيمة و جوهر، و انفتاح على التجارب الإنسانيّة كلّها، و تَسامحٌ مع كلّ مختلف و «غريب». و هذه كلّها هي جوهر الحريّة. و هذه انسياقٌ مع التجربة، و جريانٌ في مجرى الحياة، مِنْ غير قسر الواقع على أنْ يكون و يتكوّن بناءً على فكرة مسبقة. و لمّا كان التسامح ينهض علَماً على الليبراليّة، و لمّا كان خصومها هم الأقل تسامحاً و رحابةً؛ اقتضى ذلك أنْ تُحارَب و تُنْزَل منزلةَ الرجس المبين.
التطفيف و تَناقض المزاعم
و يدّعي خصومُ الليبراليّة أنّ لديهم «بديلاً». و لكنّ البديل هذا جُرِّب و اختُبِر مرّاتٍ تمتنع مِنَ العدّ. فيقترح هؤلاء الخصوم العَوْدَ على بدء «الدولة الوطنيّة» (أي الدولة الثوريّة، على «مثال» بعثيّ سوريّ، و كوريّ شماليّ، و كوبيّ كاسترويّ). و يتوسّلون ببؤس الواقع المعيشي لإثبات صحّة ما يرمون إليه. فيُلقون «شِعرهم» الملحميّ على جمهور ليس بجمهور؛ فهو على ما يدل الواقعُ ليس أكثر مِنْ جماعات و فئات و عصبيات متشظيّة. فيجيء «الشِّعرُ»، و الحال هذه، مجيءَ ضربة سيف صقيل في قالب مِنَ الزبدة الرخوة. و على رغم رخاوة الجمهور إياه، يراهن «الشِّعرُ» الثوريّ على نفخ الروح في جثث و رمم سياسيّة متهالكة، مِنْ مثل «اليسار» و «الدولة الوطنيّة»، أنتجت بدورها مسوخاً و فظائع. و هو (أي «الشِّعر») بذلك، يناقض وجهةً محليّةً و كونيّةً تنحو نحو عالَم متسامح و مفتوح و مِنْ غير حدود. و تأتي المعضلة الأكبر في «الشِّعر» الثوريّ حين يجمع أصحابُنا بين زعميْن متناقضين؛ فهم يزعمون، مِنْ وجه أوّل، النطقَ باسم «الجماهير»، و مِنْ وجه ثانٍ يتنصلّون مِنْ مشكلاتها المزمنة و الحقيقيّة، و هي مشكلات ثقافيّة بالدرجة الأولى. بيد أنّ «الجماهير»، تجمع بدورها بين زعميْن متناقضيْن كذلك؛ فهي تدّعي في قولها أنّها تنطق باسم «الأمّة»، على حين أنّ أفعالها تسلك في سلك القبيلة أو الطائفة. و يترتّب على هذا السلوك انتفاءُ الوطن كميدان واحدٍ و وحيدِ للسياسة. و عليه، يغدو الخيار المطروح بين القبيلة و بين «الأمّة». و أمّا الوطن فهو «ساحة»، على زعمٍ يساريّ قوميّ، و هو «أرض حشد و رباط»، على زعمٍ إخوانيّ إسلاميّ. و يتجلّى التناقض الثوريّ الثالث في غياب التوازن و تغليب هوى النفس؛ فالثوريّ ينكر على الدولة الأردنيّة شراكتَها السياسيّة مع القوى العظمى في العالم، على حين أنّه لا يتورّع عن التحالف مع مغامرين و مقامرين وراء الحدود، قافزاً بذلك، عن الدولة وقراراتها و مصالحها. و هذا ليس تناقضاً و حسب؛ بل هو ضربٌ مِنَ التطفيف؛ فالمطفّف، حين يكتال على الغير يستوفي لنفسه، ثمّ ينتقص من حقوق هذا الغير عليه، و يُخْسِر الميزانَ.
«الشِّعر» و «النثر»
و لا يقتصر «الشِّعر» الثوريّ على التناقض و التطفيف، فيجمع بين قسوةٍ تفتقر إلى القلب و بين ارتجال يفتقر إلى العقل، معطوفاً على نظريّة شهيرة، مفادها: «أنا غاضب، إذاً أنا على حقّ»، مسنودةً بمزاعم و اتهامات. و الأخيرة تُوزرَّع، ذات اليمين و ذات الشمال على كلّ متحفّظ أو متلكّئ: فهذا ليبراليّ جديد، و ذاك برجوازيّ صغير، و هؤلاء متأمركون، و أولئك متصهينون (و الصهيوني أعلى كعباً مِنَ المتصهين). و لكنّ الثوريّين يغفلون عن أن «شِعرهم» الذي يخطّونه منذ نصف قرن على رمال شاطئ كالح لم يَعُدْ ينطلي سوى على مَنْ لا يملكون تعريفاً لأنفسهم إلّا بما هم مضادّين لـ«العدوّ»؛ فالموج الليبراليّ العاتي اجتاح شواطئ غالبيّة بلدان العالم، و أتى على «شِعر» الثورة المخطوط على رمال تلك الشواطئ. و اندراج الغالبيّة الساحقة مِنْ دول العالم في اقتصاد السوق، و توسيع الاتحاد الأوروبيّ، و نزوع الدول الثوريّة منزعَ الاعتدال و السياسة، و بوادر انفراج الأزمة بين إيران و بين الولايات المتحدّة، و تَراجع كوريا الشماليّة عن برنامجها النوويّ، و تَراجع العنف بالعراق، و تصويت الفنزويليين ضدّ «أبديّة» تشافيز في الحُكم: هذه كلّها، و غيرها مثلها، قرائن ساطعة و دامغة على حيويّة النثر الليبراليّ مِنْ وجه، و على عقم «الشِّعر» الثوريّ مِنْ وجه آخر. و هذا ما ربما يجدر بالثوريّين أنْ يتمعنّوا فيه؛ عساهم يفيقون مِنْ غاشيتهم، و لئلّا يغدو «شِعرُهم» هراءً لا يشبه إلاّ الهراء.
hishamm126@hotmail.com