يستأنف محمد رفيع مشروعه التوثيقي والتأريخي لذاكرة الأردن، وعمّان بخاصة، في كتابه الجديد "عمران عمان القديمة: أعمال الشريف فوّاز مهنّا". وينضم الكتاب الجديد لرفيع، المهندس والأديب والباحث الجاد في تاريخ الوثائق الأردنية، إلى أعماله السابقة "ذاكرة مدينة"، إذ بلغت ثلاثة أجزاء إلى الآن، وتحتوي على وثائق وعقود الأجار القديمة في عمان، التي تكشف وجوهاً عديدة تساهم مساهمة رئيسة في توثيق تاريخ المدينة وحمايته من الضياع والاندثار. ويضاف – كذلك- هذا العمل الجديد إلى كتاب رفيع "عام الجراد في مادبا1930" الذي قام فيه بتحقيق مخطوطة تعود لمذكرات الموظف الأردني سامح حجازي(1898- 1970) إذ يصف صاحب المذكرات عملية مكافحة الجراد في مادبا، عندما كان قائم مقام فيها، شارحاً الأدوات والآليات المستخدمة، مقدماً في ظلال هذه المخطوطة إضافة معرفية جديدة في تاريخنا الاجتماعي، وتوثيقاً لمعاناة الناس وحياتهم اليومية، ملاحقاً الأحداث المهمة في الفترات السابقة.
إنّ إحدى آفات مناهجنا التعليمية هي اقتصار كتب التاريخ المدرسي والجامعي على تكرار واجترار الأحداث المعروفة من التاريخ السياسي المعاصر للأردن، دون وجود أية مناهج تذكر لتاريخ الأردن الاجتماعي والثقافي، ففي هذا السياق تأتي القيمة المعرفية والوطنية الحقيقية لجهود رفيع الدؤوبة في توثيق تاريخ "الإنسان" الأردني.
كان الأجدى ألا يكون رفيع وحده في الميدان وأن يكون على رأس مركز دراسات وفريق كبير من الباحثين لإنجاز المهمة الكبيرة في توثيق المخطوطات وحماية ذاكرة الأردن ومدنه وقراه، وأن يمضي هذا العمل(المشروع) على قدم وساق، بسرعة شديدة، لأنّها مهمة بـ"أثر رجعي" عن موعد بدايتها المفترض منذ عقود!
بالعودة إلى كتاب "عمران عمان القديمة"؛ فهو بلا شك بمثابة مرجع تأريخي وتوثيقي وطني يجدر الاهتمام به وتوفير عدد وفير من نسخه للمدارس والجامعات والمراكز الثقافية الوطنية، لما له من قيمة تاريخية مهمة. فالكتاب يتناول في الأساس المخطوطات العمرانية في عمان، التي أشرف عليها الشريف فواز مهنّا أول مهندس لبلدية عمان، الذي قام لاحقاً بدور جبّار من خلال مكتبه الهندسي في تحديد "الهوية العمرانية" لعمان القديمة.
يؤرخ رفيع، في كتابه، لبداية تحول عمان من قرية إلى مدينة منذ العام 1933. راصدا أبرز المخططات المعمارية التي أشرف عليها مكتب الشريف فوّاز خلال تلك المرحلة، وكذلك أبرز ملامح الهوية المعمارية لعمان من خلال الخرائط والصور التي يكتنز فيها الكتاب.
يبرز هدفان رئيسان، يكشف عنهما رفيع خِلسةً في ثنايا الكتاب؛ الهدف الأول تقديم صورة معمارية عن عمان القديمة مع الإشارة إلى المباني التي تعاني من الإهمال وتشكل تراثاً فنياً وتاريخياً معرّضاً للزوال أو التشويه، "محاولة للتحريض على وضع خطة علمية شاملة لإنقاذ هذا العمران من الضياع. فالمقصود بالنهاية إعادة دبّ الحياة في عروق هذا العمران المهجور في غالبه.. فالعمران الأصيل هو كائنات حية تعيش وتتنفس في حياة الناس والمدن".
أمّا الهدف الثاني(في كتاب رفيع) فهو نقد الفرضية التي تقول إنّ "عمان تطوّرت عشوائياً" خلال المراحل الأولى، فعلى النقيض من ذلك شهدت مرحلة تحول عمان من قرية إلى مدينة مطلع الثلاثينيات تطوراً تشريعياً من خلال "قانون تنظيم المدن"، وكان هنالك تعليمات خاصة بالبناء في مناطق عمان القديمة، بخاصة تلك المباني المقامة على الشوارع الرئيسة، وهنالك تخطيط عملية البناء في الأحياء الجديدة في عمان كجبل عمان، وعدم منح رخص للبناء إلا وفق المخططات الشمولية.
فعشوائية التخطيط، وربما غيابه، وتآكل المشهد القديم في عمان هو نتيجة إهمال رسمي جديد، فعمان القديمة كانت أكثر تخطيطاً وتنظيماً من عمان الجديدة ومتناغمة في هويتها المعمارية وخارطتها الديموغرافية مع طبيعتها الجغرافية، قبل أن تتطور خلال العقود الأخيرة بصورة مناقضة للطبيعة والجغرافيا معاً، وكذلك للجماليات المعمارية التي تمنح أية مدينة هويتها الثقافية والاجتماعية وترسم صورتها لدى أهلها والزائرين!
إنّ أهم ما تتميز به أعمال رفيع، ما يبرز بوضوح في الكتاب الجديد، ما نسمّيه "النصّ الموازي" للكتاب، ذلك النص الذي يكتبه القارئ وهو يعاين الوثائق والمعلومات التي يراها أمامه. النص الموازي الذي يمنحنا رفيع حق كتابته، هو محاولة بناء صورة، أو استعادتها، لعمان القديمة بما فيها من معالم معمارية وثقافية: المسجد الحسيني، جامع الفتح(في المحطة)، الديوان الملكي، البيوتات الجميلة الراقية(كبيت اسماعيل البلبيسي)، بيت الشعر، الدارات الفنية في جبل اللويبدة، بيوتات الفقراء وجغرافيتها، محطة سكة الحجاز، كهوف جبل الجوفة في بدايات القرن، بيوت عمان القرية، بيوت الأثرياء والارتباط الوثيق بين سيل عمان القديمة(بل سيولها) وأسماء العديد من المناطق(سقف السيل، رأس العين..).
المؤسف، بحق، أنّ عمان - المدينة الصغيرة عمراً- لم تقتل فقط هويتها المعمارية السابقة فحسب، بل قتلت هويتها الطبيعية والجغرافية، واغتالت السيل الذي حدّد ملامح تلك الهوية، فأصبحت اسماء الأماكن كأنها بلا مضامين حقيقية، بل مدينة بلا هوية ثقافية.
ونحن إذ نسلِّم مع أمين عمان، عمر المعاني، في تقديمه لهذا الكتاب، بأنّ "العمارة" هي "منتج ثقافي".. فإنّ السؤال: أي "ثقافة" تعكسها "الفوضى العمرانية" الجديدة في عمان؟ وأي إهمال ثقافي نمارسه تجاه "تراثنا المعماري"؟!.. ربما هذه "القضية" الأساسية المسكوت عنها في كتاب رفيع.
m.aburumman@alghad.jo
كاتب اردني