لماذا نعتبر أن من يكتب عن الفكر أو الأدب يبتعد عن السياسة ؟ لماذا يبدو السياسيون أشخاص بواجهات خشبية بلا تعبير وبلا مشاعر ؟ وهل المشاعر تبدو مُخجلة في عالم السياسة ؟ أليست معاناة الفقراء تتعلق بشعورهم بالكرامة والانسانية ؟ ألا يبدو أن غلاء الأسعار مُهدد للطبقات الفقيرة ذات الإمكانيات المحدودة والتي ترى عبر الأرقام والمشاعر بأنها لن تستطيع الصمود ؟ أليست جميع قوانين الدولة ناتجة عن حاجات ورغبات وأساسيات الحياة للمواطن ؟ ألا يعرف كلٌ منا المقولة الشائعة : " الرحمة قبل العدالة" .
الحكمة هي صانعة القانون وحين يعجز القانون عن أن يكون حكيماً يلجأ الأفراد إلى وسائل خاصة بهم لتطبيق حكمة العدالة ، قد تكون وسائل سلمية أو عنيفة ولكنها بمضمونها ترسل رسالة للقانون بأنه لا يصلح لعلاج هذه الحالة . إن القانون بإبتعاده عن الروح الانسانية ، والسياسة بتجردها من انسانيتها تدفع بالمواطن العادي إلى الإحباط أو التمرد العلني أو المكتوم ، وبكل الأحوال تنقطع الصلة التي يُفترض أن تكون وثيقة بين القانون والمواطن .
ولكن الفرق بين القانون والسياسة ، هي أن القانون هو قانون ببساطة التعبير وبتعقيده ولا يجوز لأي منا أن يتجاوز مواده الواضحة والمحدده ، وحبذا لو أن كل علاقاتنا تؤطر بمواد قانونية ، لأننا بذلك نضمن استقامة ونزاهة المجتمع إن لم يكن بالضمير الانساني أو بالوازع الديني فسوف يكون ذلك بقوة القانون وإلزاميته. أما السياسة فهي من تخطط للمواد القانونية ، ترى الحاجة لها وتكون لها رؤية محددة لكل مادة من القانون بل ولها الصلاحية المطلقة بتغيير نص أي مادة يما يتوافق مع المصالح العليا ، وحين تغلب المصالح الخاصة على المصالح العليا لا تكون سياسية بل تجارة سياسية أتقنها أصحابها لدرجة المهارة بإخفاء الغاية والوسيلة.
لماذا يكون الفكر والأدب هام للسياسي ؟ لأن الفكر والأدب انعكاس لمعاناة المجتمع ، لأفراحه ، لتطلعاته ، لمخاوفه ، لما يريد وما لا يريد ؛ نجد أن المواطن العادي يتحدث إلى الكاتب بطلاقة ويُطلعه على أدق مخاوفه وأحلامه ، وحين يقابل السياسي يتحفظ بل ويشك إن كان هذا السياسي يستمع له أصلاً ، بل ربما يرى بملاطفته نفاق لكي يكسب صوتاً في الإنتخابات المقبلة ؛ هذا الجفاء الشعوري والنفسي بين السياسي والمواطن العادي أوجد إنعدام الثقة وضعف الإنجاز ، لأن المواطن حين لا يثق لا يمنح من ذاته ولا من قدراته كما يرغب فعلاً ، والسياسي حين يرى ويتجاهل إنعدام الثقة به يستمر في مساره السياسي ليس لخدمة المصلحة العامة بل لخدمة اسمه ، مصالحه ، ومركزه الإجتماعي ، والأسوء ، حفاظاً على المكتسبات التي لن تتوفر له دون فوز انتخابي.
نحن في العالم العربي في أزمة ثقة بين المواطن العادي والسياسي ، ولا علاقة لهذه الأزمة بالديمقراطية ، فالديمقراطية أصبحت متوفرة بعدة مجالات ، ولكن الأزمة تكمن في مدى انسانية السياسي ، في نظرته لدوره في المجتمع ، في تقديره الديني والأخلاقي لما يقدم وما يفعل ، في محاسبته الصارمة لذاته لأنه بكونه سياسي أصبح شخصية عامة ولا يُحاسب مثل أي شخص عادي ، وهو أول من يجب أن يحاسب ذاته .
لماذا هذه الفجوة بين المواطن والسياسي ؟ لقد أصطنع السياسي لنفسه كرسياً عاجياً إن لم يكن في أفكاره ففي مشاعره ، وبدون الفكر والأدب يشعر بتفوقه وتميزه على الأشخاص العاديين ، بأنه يفهم ما لا يفهمون ، ويقرأ ما لايقرؤون ، وقرارته لابد أن تكون هي الصحيحة ، لأنه يمتلك الرؤيا الشاملة للمجتمع ، قد يكون فعلاً يمتلك الثقافة والدرجات العلمية ليقرر كل ذلك ، ولكن ما يميز السياسة عن باقي النشاطات الانسانية الأخرى أنها حتى وإن كانت تُمارس في المكاتب والدهاليز، إلا أن نتائجها تكون دائماً واقعة على حياة كل مواطن ، ولايمكن للسياسي أن يكون متألق مهنياً واجتماعياً وفكرياً دون أن يكون لديه تواصل انساني مع المجتمع ، ألا يرى من السياسة سوى الجانب الجاف ، جانب المصالح والتحديات والصراعات ، وقد يكون سياسياً نزيهاً ولكن الناس لا يريدون النزاهة فقط ، بل يريدون بجانبها وبترافق دائم التواضع والإقتراب منهم ، ليس وقت الإنتخابات فقط بل في أي مكان يتواجد به هذا السياسي . العمل الوحيد الذي لا يوجد له ساعات محددة هو عمل السياسي ، لأن عمله هو هذه الصلة مع من يمثلهم أو يعتقد أنه يمثلهم ، أن يكون حاضراً بكل وقت ، شاعراً بمعاناتهم محاولاً مساعدتهم حتى ولو لم يستطيع ، لبقاً حين يقول لا أستطيع ، ومترفقاً حين يضطر للقسوة ، وعادلاً حتى تجاه نفسه و أفراد أسرته ، حين ندقق النظر في السياسة الحقيقة سوف يتردد أي منا أن يخوض مضمارها لأنها مهنة العطاء للآخر مهما كان جنسه أو نسبة أو دينه ، إنها أعلى المهمات الانسانية رفعة ، وأكثرها نبلاً إن كانت في سبيل المصلحة العامة ولخدمة المصلحة العامة ، وإن كانت مع الضعيف حتى يأخذ حقه وضد القوي إن كان ظالماً .
وحين تبتعد السياسة عن الحياة وعن الأدب والفكر تتحول إلى مجموعة من المصالح ، والأشياء والأشخاص والمكاتب والأرقام ، وتتلاشي تلك العلاقة الوثيقة بين ما هو سياسي وما هو انساني ، السياسة لست عالم مخاطر حين يكون هدفها العدالة ، السياسة ليست حصاد مصالح حين يكون هدف السياسي الأول إرضاء الله تعالى بالعمل ثم خدمة المجتمع ، السياسة ليست عالم منفصل عن الحياة لأنها تدخل في بيت كل منا ، تدخل في تفاصيل حياة كل منا ، لذلك وربما كان لابد من اختبار مستوى كل سياسي أدبياً وفكرياً لنضمن بأنه يستطيع الشعور بمعاناة من حوله ، وأنه يفهم هذه المعاناة ، وأنه قادر على إيجاد حلول لهذه المعاناة . حين تتحول السياسة لمجرد حصد منافع ، تفقد قوة الإقناع لدى المواطن ، وتفقد الثقة ...لذلك لا يمكن للسياسة أن تكون بعيده عن الحياة ، ولا يمكن لها أن تحيا فقط بين جدران القاعات الفخمة ،إنها هنا بين الشوارع والأزقة ، إنها هنا في المشاعر والأفكار ، إنها ترسم مستقبل جيل كامل بكل مقوماته ، لذلك لا يمكن لأي منا أن يكون بعيداً عن السياسة وقريباً من الحياة لأنهما ممتزجان متقابلان وقد يتنافرا ولكن نحن في هذه الحياة تقودنا السياسة ، نتعايش معها ، قد نرفضها وقد نقبلها ولكنها تشكل كل اجزاء حياتنا سواء أدركنا ذلك أم لا .
الفكر هو الذي يشكل السياسة ، لأن كل سياسي سواء شاء أم أبى ، يتوجه لجمهوره بمنظمومه فكرية واخلاقية وأدبية خاصة به ، معلنة أو ضمنية ، يتم البوح بها أو يتم إكتشافها ، ولكن هذه المنظومة تشكل مساره السياسي ، لأن السياسة ليست نظريات في الكتب ، ولا خطابات رنانة على المحافل ، إنها مزيج متفاعل من ذات السياسي ، ثقافته ، انتماءه ، مشاعره ، نظرته للحياة ، نظرته للفقر ، نظرته للثراء ، نظرته لذاته وللآخر، لاضرورة للإعتناء بالسياسة لأنها تعتني بنفسها بحكم الظروف والحاجات ، ولكن لابد من الإعتناء بالسياسي ، لابد من تدريب نخبة من المجتمع رفيعة المستوى فكرياً وأدبياً وافتصادياً ودينياً ليكونوا قادة هذا المجتمع ، نخبة صاحبة الرؤية والنظرة والتحليل الانساني الشمولي والخاص . لقد أدرك الغرب أهمية إعداد السياسي ومنذ الصغر ، لأنه هو من يقود المجتمع ، وفي كل المهن لا تُسلم القيادة إلا إلى النخية ، فلماذا في المجتمع العربي لا نزال نسلم القيادة لمن لا يملك الجدارة ولا الشعور الانساني الكافي بمعاناة الآخرين ، في الغرب المعاصر فقد السياسي صفته الجافة ، وأصبح على تواصل يومي وبكل دقيقة بحاجات المواطن حتى بمشاعره ، لأن الغرب أدرك أن سياسة لا تشعر بالمواطن ولا بحاجاته ولا بمعاناته هي سياسة تسير نحو الفشل وتفقد كل حظوظها الإنتخابية . عالم الفكر والشعور ليسا عالم خيالي حالم ، ولكنه جزء من البنيان النفسي والاقتصادي والاجتماعي لأي مجتمع . كلمتان قالهما مارتن لوثر كينغ لم يكن لهما أي معنى سياسي ولكنهما غيرتا حياة الملايين من الأمريكيون السود:
" عندي حلم".