على مدى الأسبوع الماضي عاشت محافظة معان، وما تزال، ظروفا أمنية صعبة واستثنائية على خلفية تداعيات أحداث جامعة الحسين بن طلال، بينما شهد الطريق الصحراوي الذي يربط البلاد شمالها ووسطها بجنوبها، ويربطها جميعا مع ثلاث دول مجاورة أعمال قطع وتخريب وترويع، وكأن التاريخ عاد بنا قرنا الى الخلف، مئات السيارات التي تقل عائلات وضيوفا وسياحا مكدسين في طوابير وسط الصحراء يخيم عليهم الخوف والانتظار، كل ذلك يحدث وسط صمت رسمي وفراغ أمني، وكأن ذلك يحدث في بلاد الهند الصينية، وعمان مشغولة بتوزير النواب وتقاسم الحصص.
الأزمة الراهنة تواجه بصمت رسمي، ما قد يدخلنا إلى طريق الندامة بكل ما يعنيه من تهديد السلم الأهلي ودفع الناس عنوة الى تطبيق قانونهم بأيديهم، فالوصفة جاهزة والتربة محملة بشرور كثيرة من تهميش وفقر ونقمة، جميعها شرور إعادة تصنيع مجتمع آخر وإعادة إنتاج جيل فقد الثقة بأشياء غالية كثيرة، فحينما يغيب القانون ويزداد شعور الناس بالاستهداف والدونية وأن التنمية التي تتغنى بها الحكومات يسرقها الفساد، علينا أن نتصور أشكالا معقدة من العنف المجتمعي التي ستصل في نقطة ما إلى ضرب السلم الاهلي في العمق.
نحن أمام أزمة أمنية في هذه اللحظة، أساسها اجتماعي وعمقها الحقيقي اقتصادي – سياسي، فما العمل؟ صحيح أن استرخاء قبضة الدولة على القانون هو الركن الأساسي في الأزمة، ولا شك أبدا أن فيه مفتاح الحل، وصحيح أن هذا الغياب فتح المجال أمام المرجعيات الأولية للناس لكي يحتموا بها، لكن نحن بحاجة إلى الوجه الإيجابي للعشائر في هذه اللحظات، ولأفضل ما فيها؛ أي قدرة هذه القوة الاجتماعية على امتصاص الغضب وتفريغ النقمة وحفظ كرامات الناس وليس هدر حقوقهم، آلية التوسط قبل الذهاب إلى القضاء، أي من أجل التهدئة دون تعطيل دور القانون، آلية موجودة في معظم مجتمعات العالم، وهي جزء من التنظيم الذاتي الذي يحد من الخسائر والأضرار، لكن ما حدث وما يزال يحدث ان الدولة تتنازل عن دورها وتعطل القانون وتترك الجمل بما حمل للعشائر وتقف بعيدا تنتظر النتائج.
لا نريد ان نتشاطر على بعضنا في هذه الظروف الصعبة، فآلية التوسط الاجتماعي من خلال العشائر مطلوبة، ولكن دون أن يعطل ذلك دور القانون، ويجب أن يكون ذلك تكملة لدور الدولة وليس عوضا عنه، الفاجعة حينما نضع القانون على الرف ونترك المجتمع وحده يدير الفوضى.
قبل عامين بدأنا نشهد أعمال قطع الطرق وارتبطت بأعمال احتجاجية ومطلبية، ومنها تعرض موكب رئيس الوزراء المتوجه إلى الطفيلة إلى محاولة لقطع الطريق من قبل محتجين، منذ ذلك الوقت أصبح كل رؤساء الحكومات يحسبون الحساب إذا ما أرادوا زيارة إحدى المحافظات "المنكوبة" في الجنوب أو الشمال، ما يمنح إشارة قوية تدل على حجم الأزمة بأشكالها المتعددة، وما يشير أيضا وبوضوح إلى ضعف الإدراك والتقدير المسبق للموقف من قبل الإدارات والأجهزة الأمنية العاملة في الميدان، فما بالك بتقدير الموقف التنموي لحاجات الناس وحقوقهم على مدى عقود، وبالتالي العجز عن تقدير الموقف السياسي لمستقبل هذه الحاجات ومستقبل تعامل المجتمعات المحلية وسلوكها في المطالبة بحقوقها ومستقبلها.
ما تزال لغة الإشارات المتراكمة من المحافظات غير مفهومة في عمان. وفي المقابل، وللأسف، تحاصر إشارات محلية أخرى من قبل الإدارات المحلية المسترخية التي تواجه عالما جديدا يولد في هذه المجتمعات مسلحاً بوعي جديد وبعدة وعتاد تقليديين؛ وهو وعي عنيد مرتبط بإدراك الفجوة وبشعور متنام بالنقمة.
أكثر ما نحتاجه في هذا الوقت الحكمة وصوت العقل والحزم وعودة القانون.
الغد