حين تريد أن تعرف حقيقة الحياة ، أنظر إليها بعيون طاعنٍ بالسن لم يعد يريد من الحياة سوى راحة أبدية ، فسوف تراها راحلة ، بعيدة ، شاقة ، وسرب من أوهام كانت فيما مضى حقيقة ، تنازع عليها الأخوة ، وتهافت عليها الأصدقاء . حين تريد أن تحيا في هذه الحياة لابد أن تنظر إليها بعيون الطفل كي ترغب بأن تحياها وكي ترغب بأن تخوض معاركها ، وكي تستطيع أن تكون مغامر ومكتشف . حين تريد أن تستمتع بهذه الحياة لابد أن تنسى فنائها وزوالها ورحيل الأحبة بها . حين تريد أن تنسحب منها قبل أن تنسحب هي من وجودك أنظر لزوال النعم بعد طول بقائها ، ووهن الصحة بعد قوتها . وحين ترغب بأن يزول حزنك أنظر إلى مأساة من حولك ، وتذكر أوقات فرحك وأعلم أن بأعماق كل حزن هناك فرحة معرفة حقيقة الحياة ، فالحياة لا تكشف عن وجهها الحقيقي بأوقات الفرح ولكنها تمنح كل ما تخبأه من حكمة فقط بأوقات الألم ، لذا لا تحزن حين تتألم وأحزن حين لا تعلم.
لا تنظر للقصور وتتمنى سكناها بل أبني قصور الأمن والسكينة في صدرك ، فكم من قصور لا ينام أهلها ، وكم من قصور تحولت إلى قبور بعد رحيل ساكنيها. القصور الحقيقية هي ما سكن بصدرك مع اطمئنان برفقتك مع الله العلي القدير . إن كل زينة بهذه الحياة ليست سوى شهب تلتمع في سماء النفس ثم تذوي وتختفي ، ولكن النور الحقيقي هو نور معرفة الله تعالى عبر الألم والفرح ، عبر الحزن والسعادة ، عبر الفقر أو الثراء ، عبر الوحدة أو الأنس مع الآخر ، إن رأيت الحياة بأنها كيان قائم بذاته بكل موجوداته فأنت لم ترى من الوجود سوى مادته ، ولكن حين تنظر للحياة لأجل أن تتعرف إلى الله الخالق فأنت رأيت أبعد مما ترى عيناك ، رأيت بقلبك وروحك وعقلك ويصبح البصر قاصراً على أن يرى ما تراه الروح أو القلب. رؤية الله تعالى عبر كل ما هو مخلوق بهذا الكون هي الحرية الحقيقة بهذه الحياة ، لأننا لا نرى الموجودات ولكن نرى خالق الموجودات وهو ما يحررنا من ثقل المادة وبشاعة الطمع وسجن التعلق بالحياة .
في عالم من يحيا الحياة ولكنه يعيش مع الخالق ، لا توجد قيود ولا حدود ، لا ينظر للخلائق بعيونه بل ببصيرته ولا يرى بهم سوى عباد الله الضعفاء مهما اشتدت قوتهم ، في عالم من يحيا الحياة ولكنه يعيش مع الخالق لا يريد من الوجود إلا هذا القرب من الخالق لأنه أدرك أن بشاعة الوحشة لدى البعد عنه ، في عالم من يحيا الحياة ولكنه يعيش مع الخالق لا يسعي إلى المناصب ولا إلى الثروات إلا لأجل خدمة الإنسانية جمعاء وتتحول ذاته إلى عبءٍ ثقيل لأنه تجاوز حدود رغباته وأطماعه ، في عالم من يحيا الحياة ولكنه يعيش مع الخالق يزول الحزن ويتلاشى الأسى وينتهي الشوق لأنه يعلم علم اليقين بأن الله على كل شيءٍ قدير وأنه ليس سوى هبة الله بهذا الكون وحين يأتي الوقت المعلوم يرحل مثلما أتى عبداً طائعاً . في عالم من يحيا الحياة ولكنه يعيش مع الخالق يغفر الإساءه وينسى الغدر ويعفو عند المقدرة لأنه لا وقت لديه للكره ولا للحقد ، أنفاسه عزيزة عليه فيسخرها للذكر وليس للأضغان ، يعفو ليس لأنه ينسى ولكن لأن الحقد يهدم النفس كما تهدم الأمراض الجسد، في عالم من يحيا الحياة ولكنه يعيش مع الخالق يأبى أن يعيش مع أمراض النفس ويبحث عن طهارة الروح وحين تضيق به الأرض يمد بصره نحو السماء ناشداً لشيء من الحرية تجعله ينسى قيود الحياة . إن أرقى حالات حرية الانسان هي عبوديته المطلقة لله تعالى ، أن يدرك من صميم فؤاده وأعماق روحه وشمولية أفكاره بأن الله هو المدبر وهو العاطي وهو القدير ، أن يدرك أن معرفته محدودة مهما امتدت ، وأن وجوده قصير مهما طال وأن يدرك أن كل نعمة يمتلكها هي من الله إن شاء أبقاها وإن شاء سلبها ، أن يدرك بأنه لا يمتلك شيئاً بهذه الحياة وأنه ليس سوى عابر سبيل لا تلبث رحلته أن تنتهي مهما طالت ، فليحسن الإقامة وليحسن لرحيل . إن أجمل ما بهذا الوجود ليس جماله بل جمال خالقه ، فإن كان ما خلق بهذا الجمال فكيف سيكون جماله هو سبحانه وتعالى؟ لا يمكن للبصر أن يدرك هذه المعاني ولكن فقط بصيرة الروح هي من تدركها وتعلمها وتراها ولا تستطيع أن تحيا إلا بها .