على طول مدار الأزمة السورية اتسم الحراك الأمريكي بالمراوغة و التهرب من مواجهة الحقائق. فمنذ اعلان وثيقة جنيف التي حددت قواعد اللعبة سعت الولايات المتحدة الى تبني سياسة الهروب من الاستحقاقات عبر توظيفات متعددة. السياسة الأمريكية خلقت حالة من الارتباك في معسكر حلفاءها. فقد تجلى ذلك – على سبيل المثال- في الصمت السعودي, و الانكفاء التركي و حتى الارتباك الأوروبي. هذه الحالة تم التعبير عنها بالتصريحات المتباينة التي أطلقها معسكر أصدقاء أميركا على مدار السنتين الماضيتين.
ورقة الكيماوي وحالات التجاذب السياسي
ضمن دائرة الصراع السياسي الروسي- الامريكي, بدا السعي الأمريكي واضحاً -مؤخراً- لتأزيم الموقف الروسي من سوريا دولياً عبر بوابة تدويل قضية استخدام السلاح الكيميائي. بريطانيا الحليفة الأمريكية التي خرجت من اللعبة, وجدت في توظيف الولايات المتحدة طريقاً للعودة الى مطبخ السياسة العالمية فتبنت سياسياً تسويق القضية. المفاجأة أن قضية استخدام السلاح الكيماوي لم تأخذ مداها المأمول و المتوقع, لهذا ترشح احتمالية لجوء الولايات المتحدة الى الذريعة الثانية و هي فرض منطقة حظر طيران, بحجة الحفاظ على السلم العالمي. ضمن هذا السياق, تأتي فكرة استهداف طائرة ركاب روسية مدنية دون اصابتها, الأمر الذي يضطر روسيا نفسها أن توقف الطيران في الاجواء السورية. تجدر الاشارة هنا أن الولايات المتحدة كانت قد مهدت مسبقاً لهذه الخطوة عبر الطلب من حلفاءها تجنيب الطيران المدني المرور بسماء سورية. هذه الخطوة قد تسهل نقل فكرة فرض منطقة حظر طيران في الأجواء السورية الى مجلس الامن بصفة ان روسيا أيضاً هي احد اكبر المتضررين من الوضع القائم.
منطقة عزل الطيران هذه تستهدف بلاشك أيضاً ايران و حزب الله, فهي في جوهرها تهدف الى خلق حالة من القطيعة المباشرة بين الحزب اللبناني و الجمهورية الاسلامية. حزب الله, استبق هذا السيناريو بايجاد غطاء دولي يكون بوابة عبور سياسية تضمن له البقاء في المشهد السياسي الاقليمي خصوصاً اذا ما دخلت المنطقة في مخاض التسوية. لقاء بوغدانوف مع السيد حسن نصر الله, مثل بلاشك باكورة العمل على بناءهذا الغطاء. اللقاء استمر لعدة ساعات تم التطرق فيه لعدة امور حالية و مستقبلية, نتائج هذا اللقاء تقرأ ضمنياً بتعبيرات السفير الروسي في لبنان عندما علق على الدور المفترض لحزب الله في سوريا بالقول: " ان البعض يركّز على دور حزب الله في سوريا وما يقال عن قتاله إلى جانب النظام، ويتغاضون عن إرسال المسلّحين والسلاح من لبنان إلى الذين يقاتلون النظام...النظام السوري هو من يقرّر من يخرق سيادته ومن لا يخرق سيادته، وحرّ بأن يقرّر إذا كان حزب الله يساعده أو لا."
اذاً, روسيا تظهر تقدماً ملموساً في خلق مناخات دولية و اقليمية فعالة, عن طريق الدفع باتجاه الانتقال بقواعد اللعبة من اجل انضاج الحل السياسي للأزمة. من المهم ايضاً التوقف عند هذه التجاذبات الأمريكية الروسية التي أدت –بلا شك- الى انعكاسات اقليمية و عربية و سورية. فعلى الصعيد العربي أدت هذه التجاذبات الأمريكية الى انهاء دور الجامعة العربية و اختزاله بالتمثيل القطري. اما اقليمياً فكانت السياسة الامريكية سبباً في اندفاع تركيا مثلاً باتجاه ملفات متعلقة بالقضية الكردية و استحقاقاتها التركية و الاقليمية. أما في سوريا فقد اندفعت اعمال العنف من كلا الطرفين حيث بلغت ذروتها في مختلف المناطق.هذه المعطيات و التفاعلات تدفع بالأزمة السورية الى مدخل المنعطف المتمثل بضرورة وقف العنف و الاحتكام الى طاولة المفاوضات السياسية لانتاج حل وفق قواعد وثيقة جنيف. المراقب للتحركات الروسية الأخيرة أيضاً, يدرك تماماً حجم الاختراقات الروسية لمحور حلفاء الولايات المتحدة, فبعد فرنسا و ألمانيا, انتهى المطاف برئيس الوزراء الياباني في موسكو على رأس وفد من أكبر المستثمرين اليابانيين, حيث تصدر جدول اعمال اللقاء, الطلب الصريح من موسكو التدخل لدى بيونغ يانغ لوقف التصعيد في شبه الجزيرة الكورية.
الاستراتيجية الروسية تبنت فكرة اختراق محور الطوق السوري. فبعد اتمام وزير الخارجية الروسي لافروف لزيارته في تركيا اوفد نائبه بوغدانوف الى لبنان, الرسالة الضمنية الروسية تؤكد ان محور الطوق السوري لايمكن ان يبقى بعيداً عن دائرة التأثير الروسي, فلا يمكن المضي قدماً بالحل السياسي دون تثبيت هذا المحور, و هنا تاتي خلاصة هذه الزيارة عبر تصريح بوغدانوف في مطار بيروت قبيل المغادرة: " بيان جنيف لا بديل عنه، ونبني عملنا في سبيل تحقيق هذه التسوية على قاعدة بيان جنيف."
في سياق تطورات الأزمة السورية من الملفت أيضاً أن الرئيس المصري هو الآخر بعد انهاء زيارته الى موسكو, قام بارسال مستشاره للعلاقات الخارجية عصام الحداد على رأس وفد رئاسي الى طهران بهدف تفعيل المبادرة المصرية بشأن سوريا. سيناريو البحث عن المخرج السياسي للأزمة ضمن هذه التجاذبات, انتهى باتصال مباشر بين الرئيس بوتين و اوباما و الذي أسفر عن اعلان زيارة جون كيري وزير الخارجية الأمريكي الى موسكو الاسبوع المقبل حيث يلتقي وزير الخارجية لافروف ضمن زيارة عمل في 7-8 أيار. هذا اللقاء سيكون الثاني بين الوزيرين في أقل من أسبوعين, حيث التقى الوزيران يوم 23 نيسان على هامش الاجتماع الوزاري لمجلس روسيا – حلف الناتو في بروكسل.
الطريق الى تسوية الحل النهائي: انعكاسات التسوية على جميع الأطراف
الولايات المتحدة استخدمت سياسة اطالة امد الأزمة السورية من اجل انضاج التسوية الاقليمية الشاملة
يجمع كثير من المراقبين أن تعويض الفشل الأمريكي في سوريا لن يكون الا عبر بوابة التسوية الاقليمية الشاملة. هذا ما يفسر سعي الولايات المتحدة الحثيث للوصول الى تفاهمات متقدمة ضمن اطار عملية السلام بجمع جميع اطراف التسوية الفلسطينية-الاسرائيلية, و احالة العطاء على الرؤية القطرية و التي تم تسميتها اصطلاحاً "مبادرة السلام العربية مع بعض التعديلات".
الرئيس الأمريكي تحدث مع الأمير القطري في سياقات متعددة, من المدائح التي وجهها لمركز الابداع القطري على حد وصف أوباما الى الدور المهم الذي تلعبه في المنطقة. حيث عبر أوباما عن تثمينه للدور القطري في دعم المعارضة السورية, و ناقش مع الأمير مستقبل مصر و القضية الفلسطينية و استمع الى الرؤية القطرية في هذا الجانب. اوباما قدم الشكر للقطريين على مساعدتهم للولايات المتحدة في أفغانستان, و دورهم في التواصل مع طالبان عبر افتتاح مكتب تمثيل دبلوماسي لطالبان في الدوحة.
طبيعة مخرجات الاجتماع القطري – الأمريكي تشير الى ريادة الدور القطري في المنطقة على حساب الدور السعودي التقليدي سواء على المستوى الخليجي او العربي أو تحت ما يسمى الان "المحور السني الجديد" و الذي جاءت تعبيراته عبر تحالف قطر اقليمياً مع تركيا و عربياً مع مصر و فلسطينياً مع خالد مشعل, هذه التحالفات تعرض بوضوح مكونات انجاز مشروع التسوية الفلسطينية قطرياً. البعض يرى أن الامارة القطرية تستسبق الخروج من المشهد السوري عبر تسيدها لمشهد التسوية الشاملة, فاردوغان يمهد للرؤية القطرية للتسوية عبر زيارة تل أبيب مروراً بغزة, و يتوجها الامير القطري بزيارته لتل ابيب حاملاً معه مبادرة السلام القطرية التوافقية.
ضمن هذه التحولات قد يجد محور مبادرة السلام العربية "المحور السني القديم: السعودية – الأردن- الامارات" نفسه خارج اطار المعادلة السياسية الاقليمية و قد تجد ارتدادات التحولات السياسية في المنطقة طريقها الى الساحات الداخلية لهذه الدول.
من هنا فان الأردن اليوم يقف على مفترق طرق حاسم. فمع بوادر انطلاق التسوية السورية السورية, قد يجد الأردن السياسي نفسه دون غطاء دولي, الأمر الذي قد يضع الأردن امام استحقاق الخروج من المشهد الاقليمي. اما تبني الرؤية القطرية لتسوية الحل النهائي فتشكل عامل التحييد الأكبر لأي دور أردني مستقبلي, و قد يضطر الأردن ضمن هذا السياق الى مواجهة مخرجات هذه التسويات دون أي تحالفات دولية او اقليمية فاعلة, خصوصاُ اذا ما جاءت هذه المخرجات عبر قرارات مفروضة دولياً.
لكن, مما لاشك فيه أن الدولة الأردنية على مدار الأزمة السورية قد لعبت دوراً متوازناً حظي باحترام مختلف الأوساط. و قد كان لدور المؤسسة العسكرية في ضبط التداعيات التي وصلت في بعض الأحيان الى التلويح بتفعيل مناخات أمنية قلقة عبر الاشارة لخلايا نائمة و خلايا قادمة من الخارج. اللافت للنظر حجم الالتفاف الشعبي حول القوات المسلحة. الأمر الذي سيمكنها بلا شك من لعب دور أكثر حيوية في تحمل مسؤولياتها الوطنية و ضمان الحفاظ على الأردن في واحدة من اهم المنعطفات التاريخية التي ستشهدها المنطقة في القريب القادم.