كان من المفروض ان تكون هذه المقالة أمامكم، بينما يكون جسدي بين مباضع الجراحين وأصابعهم في احدى غرف عمليات مستشفى كرومويل اللندني، لكن الأمور لم تسر كما كان مفترضا، ولم أجد صورة لهذا الاقتراب والابتعاد من غرفة العمليات من صورة ما يجري في لبنان لاختيار رئيس الجمهورية، حيث تقترب الأقدام خطوة من الهدف ثم تتراجع خطوات، في فارق عميق هو ان زراعة كبد جديد لي موضوع خلاف واختلاف بين معارضة وموالاة، وبين اكثرية نيابية واكثرية شعبية! في انتظار العملية الموعودة أحضرت لي ابنتي من البحرين الى لندن مجموعة روايات البرازايلي (باولو كويلهو) والتشيلية (ايزابيل الليندي) وقد استطاعت روايات هذه وروايات ذاك ان تمنع عني ما يمكن ان يسببه فراغ الانتظار او تفاهات غالبية الفضائيات العربية، ولا أدري كيف ان فكرة الموت لدى (باولو كويلهو) جعلتني أشعر انها ذاتها لديّ، حيث تعاملت مع مرضي ومع خطورة عمليتي التي لم تتم بعد، من منطلق ان الموت يستطيع بادراكنا لفلسفته ان يمنحنا الحياة الحقيقية ويمكننا من سكب آخر نقطة من الكأس بين أصابعنا، فالروائي البرازيلي يختصر الفكرة بأقل الكلمات، اذ روى ان صحفيا بريطانيا سأله في لقاء معه: ماذا تريد ان يكتب على شاهد قبرك، فأجابه الروائي: اذا ما أحرق جسدي بعد موتي فلن يكون هناك حجر مع كتابة، لكنني اذا اردت أختار عبارة فسأطلب ان يكتب مات بينما كان حيا والنظرة الى الموت بهذا الوعي والمنطق لا يمكن ان تكون الا للذين لا يستسلمون له قبل ان يصل ثم تراهم يجلسون في انتظاره حتى لو كان الانتظار سنوات لا يشعرون خلالها بأنهم أحياء او ان الموت لم يصل اليهم، وفي موقع آخر يقول (باولو كويلهو): (ان المرء لا يمكن ان يخشى شيئا لا بد سيحصل) ويقول الهنود: (هذا اليوم مناسب جدا لمغادرة العالم) وقد أعلن ساحر ذات يوم: ليكن الموت جالسا دوما بقربك، وهكذا عندما يتحتم عليك ان تقوم بأشياء مهمة فانه سيمنحك القوة والشجاعة اللازمتين، وفي موقع آخر يقول باولو: (التفكير يفتح الأبواب أمام الخوف).
تم تأجيل عملية زراعة كبد جديد لي، ولا ادري متى سيكون هناك موعد حقيقي لدخولي في الغرفة المخصصة لفتح بطني واستخراج كامل كبدي المتعب، وفي الأيام الاخيرة قال لي الطبيب الجراح الذي سيجري العملية ان احتمال اصابة كبدك الجديد بذات المرض السابق او بمرض آخر احتمال ليس بعيدا، وأعترف لحظتها انني لم أحزن او أغضب بسبب تأجيل موعد العملية، اذ خيّل لي ان انتزع كبد متعب يعرفني وأعرفه وأتعامل معه حتى الآن دون شعور بالخوف او القلق يظل خيارا غير مرحب به أمام وضع قنبلة عنقودية داخل جوفي، لم يسبق لنا ان التقينا او تحدثنا معا او ضاقت بيننا المسافة وأظل محكوما بموت الحركة وموت التفكير وموت العمل خشية ان تقرر هذه القنبلة مغادرة جوفي دون حاجة الى غرفة عمليات او مباضع وأصابع جراحين، فيكون الأمر أشبه بالانتحار وهو العمل الذي لم يقدم عليه سوى الجبناء، فالهروب من الحياة ليس هروبا من الموت ولكنه هروب نحوه بقدر هائل من الغباء.
بعد ساعات سأكون في عمان، حيث كل حجر من حجارتها، وغصن من اشجارها، وخصلة من جدائل صغيراتها، وضحكة من فرح اطفالها، كبدي الحقيقي الذي لا يمرض ولا يتعب ولا يقبل ان تمتد اليه يد ومبضع لإنتزاعه والقائه في حاوية المواد الطبية المستهلكة.
بعد ساعات سأكون في عمان، مملوءاً بفرح حقيقي كدت افقد دفئه وضباب لندن وصقيعها وأنا اقطع المسافة من بوابة الشقة التي اقيم فيها وبوابة المستشفى الذي تنتظرني احدى غرف عملياته لجراحة لا تدفعني الى الخوف ولا الى الطمأنينة، وهو ما لا استطيع التعايش معه يوماً واحداً فكيف اذا كان عاماً او اعواماً.
بعد ساعات سأكون في عمان، سيكون قريباً مني اصدقاء ومحبون اعرف بعضهم ولا اعرف البعض الآخر، يبعثون اليّ رسائلهم القصيرة ولكنها متوهجة بالدفء والجمر، ويدعونني الى مواجهة معركتي مع كبدي بما اعتادوا ان يعرفوا عني او ان يعرفوا مني.
اريد ان اقرع نافذة عمان، وأن ادخل حيث تجلس مع شجرها وحجرها وكبريائها وعشقها، سأقبل يديها، وسأقبل رأسها وسأنتظر ان تقول لي شيئاً بعد غيابي عنها شهراً، ولكنها لا تقول سوى بضع كلمات: هل تناولت عشاءك يا بني؟ هل شربت قهوتك؟ هل أجريت مكالماتك الهاتفية؟ هل ادرك الآن ماذا ان يكون لك أم وللأم صدر وللصدر شرفة تجلس عليها كل مساء وترفع يديك لعمان التي تكمل كل دقيقة دورتها حول أهلها وحول عشاقها وحول أطفالها وحول ابائها المتقدمين في العمر والوقار وامهاتها المتقدمات في الدفء والحنان، ثم تتناول غطاء خفيفاً تغطي به جسدك الذي اتعبته رحلتك اليوم.
kmahadin@hotmail.com
_______________________________________________
الزميل المحادين يعود الى ارض الوطن من لندن يوم غد الاثنين بعد اجرائه لعدد من الفحوصات الطبية الضرورية هناك ..
سلامات ابو سنان وعود احمد ان شاء الله..